دمعة ووردة على قبر نيرة
محمد عبدالمنعم الشاذلي
آخر تحديث:
الجمعة 24 يونيو 2022 - 9:00 م
بتوقيت القاهرة
مقتل طالبة المنصورة مأساة مؤلمة ومرعبة هزت المجتمع هزة شديدة راح ضحيتها فتاة فى عمر الزهور جميلة وطموحة تتطلع إلى المستقبل بأمل وعزيمة وإصرار لتحقيق ذاتها وبناء مستقبلها. وراح ضحيتها أيضا شاب فى عمر الزهور طالب نابه ينجح فى ثلاث سنوات متتالية بدرجة امتياز وترتيبه الأول على دفعته. المستقبل مفتوح أمامه ليصير معيدا ثم أستاذا فى كلية الآداب فإن لم يعجبه السلك التعليمى فيمكنه أن يكون صحفيا أو إعلاميا أو دبلوماسيا لكنه اختار الانتحار؛ فقد قتل نفسه عندما قتل نيرة وهدم مستقبله وهدم حياته وأصبح لا ينتظر إلا حبل المشنقة.
لعل قمة المأساة أن هذه الجريمة البشعة ارتكبت باسم الحب! الحب الذى من المفروض أن يسمو بالعواطف وأساسه المودة والتراحم والثقة وأن يدفع الإنسان إلى الأخذ بيد حبيبه ليحلقا معا فى أعماق السعادة والنجاح. والحب هو من أسمى العواطف الإنسانية والذى يميز الإنسان عن البهائم التى لا تجذبها إلا الغريزة الحيوانية.
ولكن وللأسف كانت عاطفة الحب النبيلة من أكثر العواطف التى تعرضت إلى المسخ والتشويه وتحولت إلى أداة سادية ماسوشية فنرى طرفا يعذب طرفا بالخيانة والإيذاء المعنوى والبدنى والآخر متمسكا بالعلاقة باسم الحب.
• • •
لقد خلقنا أوهاما وصيرنا الحب وهما لا أساس أو أرضية واقعية له. ولعل متابعة كلمات بعض الأغانى توضح لنا ذلك والأمثلة كثيرة مثل أغنية عبدالحليم حافظ «فاتت جنبنا» عن فتاة ابتسمت له أثناء سيره مع صديقه فظل يعذب نفسه بالسؤال هل الابتسامة له أم لصاحبه، وأغنية «ساكن قصادى» لنجاة التى ترى جارها من الشباك وتعذب نفسها بقصة حب وهم والجار لا يشعر أساسا بوجودها. وساهم الأدب العالمى فى ترسيخ هذا الوهم فنجد روميو الذى يبلغ السابعة عشرة من عمره يشاهد جوليت ذات الأربع عشرة ربيعا فى حفل راقص، طفلان أو على الأكثر مراهقان، يخفق قلباهما بالحب من أول نظرة ويؤدى هذا الحب إلى سكب الدماء فيقتل تيبالت قريب جوليت ميركوتيو صديق روميو، فقتله روميو وتنتهى المأساة بانتحاره هو وجوليت.
قصة حب مأساوية أخرى قدمها شكسبير عن عطيل الذى وسوس له صديقه ياجو أن زوجته ديدمونة تخونه فقتلها وينتابه الندم بعد أن تيقن من براءتها بعد فوات الأوان وينتحر. وقبل شكسبير خلد هوميروس قصة أمير طروادة باريس الذى شاهد ملكة إسبرطة الجميلة هيلين أثناء استضافة زوجها مينلاوس له فنسى المسئولية والشرف واختطفها إلى بلده وقامت بسبب فعلته حرب ضروس سقط فيها آلاف القتلى ودمرت طروادة بسببها. وتغوص قصص الحب الدامية فى التاريخ لتصل إلى عصر الفراعنة حيث قتل ست شقيقه أوزوريس عندما فضلته عليه إيزيس.
كم من الدماء سالت بسبب وهم الحب حتى بيننا نكاد نقول أن الحب مثله مثل الشرف الرفيع لا يتحقق إلا إذا سالت على جانبيه الدماء.
الحب لدى الشباب طاقة هائلة قادرة على أن تدفعهم نحو السمو وتحقيق الذات وقد تدفعهم فى الاتجاه المضاد نحو الحضيض وتدمير الذات. ليتنا عن طريق الإعلام والفن والأدب نزيل الغشاوة والأوهام المحيطة بهذه العاطفة السامية بتوعيتهم بأن الحب ليس قصة شاب وفتاة يرقصان فى ملهى أو يتناولان العصائر فى مقهى على النيل، لكنه مسئولية والتزام وتضحية. ليت الشباب يستمعون إلى حوار يوسف وهبى مع الأستاذ حمام فى فيلم غزل البنات، وليتنا نقدم لهم قصص حب أسمى من روميو وجوليت وعطيل وديدمونة مثل قصة طه وسوزان التى رافقته طوال مشوار حياته رغم إعاقته ودفعته إلى الامتياز والعبقرية، وقصة أنور وجيهان التى أحبته وهو مطارد شريد ووقفت بجانبه طوال مشوار حياته وكفاحه.
• • •
لعل البعد المأساوى الآخر فى قضية نيرة هو موقف الجامعة من طالب ينجح بامتياز طوال ثلاث سنوات كان فيها أول دفعته لم تلاحظ تفوقه ولم تقدم له أى رعاية نفسية أو اجتماعية وتركته نهبا لنفسية مريضة حطمته فى النهاية، ولو كان صبيا موهوبا فى الكرة الشراب فى الحوارى لالتقطه صائدو المواهب للنوادى الرياضية والفرق الكروية وأحاطوه بكل رعاية وتشجيع.
إن الأعداد الهائلة المكدسة فى الجامعات تجعل من المستحيل متابعة كل الطلبة لكن المتفوقين والنوابغ لابد أن يلقوا رعاية خاصة علما بأنهم المؤهلون لتولى المناصب فى الكادر التدريسى فها نتصور الكارثة لو كان طالبا متفوقا بداخله شر كامن ومرض نفسى عضال قد وصل إلى كرسى الأستاذية والضرر الذى ينجم عنه. ومن المؤسف أن رئيس الجامعة لا فض فوه أسرع فى التنصل من المسئولية مؤكدا أن الحادث وقع خارج أسوار الجامعة.
أما ثالثة الأثافى وما زاد الأمر ضغثا على إبالة هو التناول الإعلامى للمأساة بشكل فيه كثير من الإثارة والبعد عن الموضوعية. فلا أتصور أن تسعى منابر إعلامية إلى استضافة والد نيرة قبل أن يجف دمها ويظهر الرجل المكلوم، وله كل العذر، فيعلن أنه لن يتلقى العزاء فى ابنته قبل أن يتم تنفيذ حكم الإعدام فى قاتلها ويتم القصاص وتوافقه الإعلامية الكبيرة الشهيرة على ذلك مؤكدة أنه لا شىء بديلا عن الإعدام وكأننا فى قرية من قرى الصعيد لدى الأسر التى لا تقيم العزاء حتى يتم القصاص وبقى عليها أن تطالب باقتحام السجن وسحل المتهم وقتله وتعليق جثته فى ميدان عام.
ويزداد الأمر قتامة وإظلاما عندما يفرد منبر إعلامى لمن نصب نفسه علينا داعية وهاديا ومبشرا ونذيرا مبررا الجريمة البشعة بملابس الضحية المسكينة وسفورها ويجعل السفور مبررا لسفك الدماء وأن العاصم من القتل هو الزى الذى يرضاه عقله المريض.
ويبلغ الهزل أوجها عندما يستضيف منبر إعلامى آخر فرد الأمن فى الجامعة الذى قبض على القاتل ومن الواضح أنه إنسان بسيط ويتحدث عن سيطرته على القاتل الذى هدده بسكين وينهى كلامه بالقول «الحمد لله حصل خير»!