مزايا انقطاع ... التيار الكهربائى
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 24 يوليه 2012 - 12:25 م
بتوقيت القاهرة
انقطاع الكهرباء عن بعض أحياء القاهرة ــ بما فيها تلك التى توصف بـ«الراقية» ــ عدة مرات يوميا فى الأسبوع الماضى كان كابوسا حقيقيا، خاصة والحرارة تقترب فى ذروتها من خمسين درجة. وحينما تنقطع الكهرباء فإن كل شىء يتوقف: التكييف، والمصاعد، والثلاجات، والأهم والأخطر من كل ذلك، التليفزيون. المحظوظون هربوا من سجن المدينة الاسمنتى إلى رحابة السواحل وهوائها العليل، ولكنهم وجدوا أنفسهم تحت رحمة انقطاع التيار الكهربائى مرة أخرى، وما المصيف دون سهر ومراوح ومتابعة المسلسلات التركية ومباريات الكرة الأوروبية ومعارك القنوات الفضائية المصرية؟
ومع ذلك فرب ضارة نافعة. للمرة الأولى يدرك الكثيرون من سكان المدن (خاصة من أصحاب الوظائف والدخول المستقرة) أن مشكلة الطاقة والكهرباء تتجاوز ما يسمعون عنه من نقص فى أنابيب البوتاجاز، بينما هذه أزمة خطيرة يعيش معها كل يوم المزارعون وسائقو سيارات الأجرة والنقل وأصحاب الورش والمصانع والعاملون فى المقاهى والمطاعم والفنادق، وغيرهم ممن يعتمد دخلهم بشكل مباشر على الطاقة والكهرباء والسولار.
وانقطاع الكهرباء لا يرتبط بكفاءة وزارة الكهرباء أو براعة وزيرها فقط، بل هو وثيق الصلة بالوضع الاقتصادى عموما، ويصبح حتميا حينما تتفاقم مشكلتان: الأولى أن استيراد السولار اللازم لتشغيل محطات الكهرباء يحتاج إلى عملة أجنبية، مصدرها الرئيسى هو الاحتياطى الأجنبى لدى البنك المركزى، وهذا الاحتياطى ــ كما هو معلوم ــ انخفض خلال العام ونصف العام الماضيين من نحو ثمانية وثلاثين مليار دولار إلى ما يقرب من خمسة عشر مليارا نتيجة لانخفاض عائدات السياحة، ونضوب الاستثمار الأجنبى الجديد، وخروج أموال المستثمرين. أما المشكلة الثانية فهى أن الموازنة العامة للدولة تحملت فى العام المالى الماضى ــ تحت بند دعم الطاقة للفقراء ــ نحو 95 مليار جنيه مصرى من مجموع الانفاق العام البالغ 490 مليار جنيه، أى ما يقرب من 20% من الانفاق العام السنوى، بينما الحقيقة أن جانبا كبيرا من هذا الدعم لا يذهب للفقراء بل ولا يعلمون عنه شيئا لأنه يجد طريقه إلى مزارع الدواجن، وقمائن الطوب، والسوق السوداء للمنتجات البترولية وللبوتاجاز، ولتمويل الكهرباء فى بيوت الناس سواء كانوا مستحقين للدعم أم لا.
هذه الحقائق ليست جديدة، ولكن المعرفة شىء والتجربة والمعايشة شىء مختلف تماما، وكثيرون لم يشعروا بمشكلة تمويل الطاقة إلا حينما انقطعت الكهرباء عن منازلهم، بينما الفلاح المصرى مثلا يعيش آثارها المدمرة منذ اللحظة الأولى. منذ شهرين، أثناء موسم حصاد القمح، كنت أزور إحدى قرى مركز «أبوتيج» فى أسيوط، فالتقيت فى مدخلها العمدة يقود الجرار ويحمل سلاحه، متوجها إلى محطة البنزين، وعازما على أن يجد مطلبه من السولار فى هذا اليوم ولو بالقوة، لأنه لو لم يجده فسيتوقف الجرار، وكذلك ماكينة الحصاد، وماكينة الدرس، وستذبل سنابل القمح على الأرض وقد تحترق. باختصار فإن نقص السولار يعنى أن يفلس الرجل وتجوع عائلته، هكذا ببساطة وبدون لف ودوران. المهم أننى قمت بزيارة القرية، وتوجهت فى نهايتها لمنزل العمدة لما علمت أنه عاد من مشواره مظفرا، فوجدته لا يريد الحديث عن الدستور ولا عن البرلمان ولا عن المادة الثانية ولا العاشرة، وإنما عن الاقتصاد وأزمة السولار وكيفية تسعير القمح فى ضوء ما دفعه لشراء الوقود من السوق السوداء. أخيرا انقطعت الكهرباء عن القاهرة وعن أحيائها الراقية لكى يدرك الناس ما يعلمه عمدة القرية المجاورة وكل فلاح آخر فى جمهورية مصر العربية: أن الوضع الاقتصادى خطير، وأن استمرار دعم الطاقة على النحو الحالى غير ممكن، وأن هذا الدعم لا يفيد الفقراء بل يضرهم لأنه يدفعهم إلى الشراء من السوق السوداء بأسعار أعلى من تكلفتها الأصلية، بينما يستفيد منه أصحاب النفوذ والحظوة ممن لديهم القدرة على الشراء بالسعر المدعوم وبدون مشقة.
صحيح أن ما وصلنا إليه اليوم هو نتيجة تراكم أخطاء سابقة، وأن الكثير من الاقتصاديين المحترمين حذروا منه ولم يلتفت إليهم أحد، وأن محاولات سابقة لم تكتمل بسبب اعتراض القيادة السياسية والجهات الأمنية (على رأسها محاولة د. على المصيلحى لتصحيح قاعدة بيانات مستحقى الدعم ولتوزيع البوتاجاز عن طريق الكوبونات). وصحيح أيضا أنه لا الرئيس محمد مرسى ولا حكومته ولا حزب الحرية والعدالة مسئولون عن هذا الوضع الكارثى. هذا كله صحيح ولكنه ليس مجديا. فالحديث عن أخطاء الماضى مفيد فى كتابة التاريخ وربما فى الدعاية الانتخابية، ولكنه لن يشغل محطات الكهرباء ولن يدير جرارات الفلاحين. لذلك فعلى رئيس الدولة وحكومته ومستشاريه أن يتصدوا لهذه الأزمة ولو لم تكن من صنعهم.
المخرج من هذه المشكلة لا توجد له حلول سحرية يمكن أن يأتى بها الرئيس الجديد، فالحلول معروفة والبدائل تمت دراستها ولكن تكمن صعوبة تطبيقها فى أنها تمس مصالح حقيقية ومستقرة، وتتطلب توافقا واسعا فى المجتمع حول قضية الدعم بشكل عام وكيفية وصوله لمستحقيه. فالقرارات المتعلقة بدعم الطاقة لا يمكن فرضها بالقوة الجبرية وحدها ولا بقرارات مفاجئة ولا برؤية منفردة للحزب الحاكم، بل يجب أن يتم اتخاذها وتطبيقها بناء على اتفاق فى المجتمع، وعلى مشاركة من جميع القوى السياسية، وعلى رؤية تشارك فيها الأطراف الرئيسية فى النشاط الصناعى والسياحى والزراعى، والنقابات العمالية، وجمعيات المستثمرين، حتى يمكن الوصول لصيغة ومعادلة جديدة سليمة ومقبولة من مختلف فئات المجتمع. لا يوجد برنامج حزبى ولا سياسة حكومية، مهما كانت رشيدة ومدروسة جيدا، يمكن تطبيقها بنجاح فيما يتعلق بموضوع الدعم عموما وبدعم الطاقة بالذات دون أن يساندها اتفاق واسع فى المجتمع وقبول مسبق من الرأى العام.
الظروف الاقتصادية بالتأكيد صعبة ولكن الفرصة متاحة الآن ربما أكثر من السابق، ليس فقط لأن الناس أدركت وشعرت بوقع المشكلة على منازلها وعلى حياتها، ولكن ــ وهذا هو الأهم ــ لأن الرئيس المنتخب لديه شرعية يستند إليها ولديه فرصة لبناء توافق على عدد من القضايا الاقتصادية الملحة التى لا تحتمل تأخير، وعلى رأسها دعم الطاقة. وفى تقديرى أنه لو سعى لذلك سوف يجد المجتمع مستعدا للوقوف وراءه ومساندته أكثر مما كان فى القضايا الدستورية والقانونية. فهذه ببساطة ــ وكما يعلم سكان القرى المجاورة لبلدنا فى أسيوط وفى كل الريف المصرى ــ مسألة حياة أو موت