خفة الخطوة
خولة مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 24 يوليه 2012 - 12:20 م
بتوقيت القاهرة
ترحل بعض الشىء.. تغادر هذا المكان أو ذاك.. تطاردك اشباح مدينتك دوما.. هذا ما كان هناك فى كامبريدج حيث التاريخ فى حضن الطبيعة والبشر يسرحون بين هذا وذاك، ثم ينتقلون فى مراكبهم الصغيرة فى فسحة فى النهر.. تمشى فتجد خفة خطوتك التى كانت ثم قتلتها الكثير من مدننا.. تمشى وكأنك تحلق فى فضاء شاسع لا عيون تراقب ولا أيدى تمتد ولا احكام أو قيود على اللبس أو التصرف ولا شىء سوى انت ونسمة باردة تداعب اطرافك.. تخف خطوتك اكثر مع زخات المطر الأولى وكأن الطبيعة تتآمر عليك للحظات من النشوة الخاصة جدا والبريئة أيضا..
تمشى فتجد مساحة من رصيف لك لا تبحث عن تلك المساحة لا ارصفة تحولت إلى مواقف للسيارات أو امكنة افترشها الباعة الجائلون فقضموا منها نصفها أو كلها.. مدن بأرصفة هى الشرط الاول لخفة الخطوة أو ربما لممارسة حقك فى ان تمشى حتى التحليق بعيدا، وحدك تمارس فعل المشى مع التأمل.. تمتد امامك مساحات افتراضية غير تلك التى تلامسك بحنين إلى مدننا التى كانت، أو ربما إلى خطواتنا التى تحولت إلى ثقل.
كلما خفت خطوتك بين زحام من البشر من اجناس وألوان مختلفة.. توقظك الفكرة أو ربما السؤال «ماذا حدث لخطوتى هناك».. تستيقظ من بعض ما تصورت انه حلم ثم ما تلبث وان تعود لخفتك تتأمل حولك أو ربما تبحث عن الاجابة، يمارس فعل المشى الكثيرون بألوان وأعراق ولغات متعددة، كلهم يعرفون شروط المشى غير المكتوبة.. تفيق على ابتسامة أو ربما تحية من شخص لا تعرفه أو اعتذار من احد تصور انه قد اعتدى على جزء من مساحاتك على هذا الرصيف.. تتراص الاجساد أو ربما تتلاحم دون ان تلتصق، تتحول كل الانظمة والقوانين إلى فعل يومى دون حاجة إلى شرطة لتنظيم المشى.
تخف خطوتك اكثر رغم ان زخات المطر البسيطة تتحول إلى امطار غزيرة تحتمى بشمسيتك ــ اليس من المفترض ان تكون مطريتك؟ ــ فصيف بريطانيا هذا العام لا يشبه الا شتاءها فليس به من ملامح الصيف الا بضع لحظات تسرقها الشمس من بين سماء مخزنة بالغيوم السوداء تخيف اولئك القائمين على اوليمبياد 2012 من تجربة قد تفسد ما يخبئونه من مفاجآت رائعة.
حتى وانت مبلل بتلك الامطار الغزيرة ترفض الاستماع الا إلى صوت خطوتك الذى اختفى، تستمر فى الفعل نفسه وعلى عكس المنطق تبحث عن الطرق الأطول والأكثر تعرجا بين تلك المبانى المعتقة.. تستغرب انهم لا يكترثون بالمطر فقد اعتادوه واعتادهم... تعود اليك مشاهد من افلام كثيرة تعيد ترديد بعض المقاطع من اغانى قيلت عن السير فى المطر أو الغناء تحته.. تكتشف ان الطفل بداخلك لا يزال منتعشا وكنت قد تصورت انه ربما انتحر أو مات من «الزهق» فى البحث عن مساحة للفرح مهما كانت صغيرة.. تتقمصك تلك الطفلة بل هى انت! طفلة تغتسل بأمطار صيف انجليزى.. تعيد تذكير نفسك بأنك فى مؤتمر وان المدينة الصغيرة هذه تعج بالمشاركين فيه وقد يكتشف احدهم أو احداهن هذه الطفلة التى خرجت.. تحاول ان تمسك بنفسك من الضحك حتى لا يقال «مجنونة» كما هو الحال فى مدننا.. تعيد فتذكر نفسك بأن فى مثل هذه المدن يلبس الجميع نفس القيم ويعود الجميع حتى اولئك القادمين من مدننا إلى اكتشاف خفة خطوتهم كما انت ربما؟! كم صغيرة احلامنا.. ما اصغر مساحات فرحنا وكم هى بسيطة.. المشى فى كامبريدج كما معظم مدن الكون لا يعد فعل مغامرة وكأنك وانت تقرر النزول مشيا قد اعتزمت الدخول فى غابة شديدة التعقيد وقاسية على الماشى هنا تبقى هى كما مدن اخرى.. مدن بأرصفة تحترم الماشين وخفة خطوتهم.