أعطنا خبزنا وبعض الحب
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 24 يوليه 2019 - 9:25 م
بتوقيت القاهرة
كثير ما تردد والدتى أنها لا تستمتع بوجبة طعام بقدر استمتاعها بقطعة خبز تضع فوقها جبنة بلدية وتأكلهما مع كوب من الشاى وقت المغرب. تتغنى أمى بوليمتها وتصف شعورها وكأنها تصف شعور شخص يقف أمام مائدة عامرة بأصناف وألوان من الطعام الدسم. أمازحها أحيانا فأقول عنها «فقرية» لكنى أعرف ما تعنيه بالتحديد: أن يحصل شخص على قطعة خبز حين يريدها، ويحرك السكر فى الشاى وهو آمن فى مطبخ بيته، أن يجلس فى مكان مريح يرتشف مشروبه ويتأمل العالم من حوله، قد تكون تلك هى السعادة بعينها.
***
الخبز، أو العيش كما يسمى فى مصر وبلاد أخرى، يعد مادة أساسية للغذاء عند الكثيرين، حتى أننا فى بلاد الشام نقول فى مجرى الحديث «راضى بالخبزة والزيتونة» كدليل على الرضا والقناعة، أى أن الخبز (والزيتون، بما أنه من ثوابت منطقة حوض المتوسط) هو أقل ما يحتاجه الإنسان للبقاء على قيد الحياة. أنا أفضل كلمة «العيش» باللغة المصرية الدارجة، وأجدها تعبر بشكل لا يحتمل التفسير عن مكانة الخبز فى الحياة: لا عيش دون العيش!
***
مناسبة الحديث عن الخبز هنا هو أننى لطالما شعرت أن للخبز مفعولا سحريا علىّ، ولطالما توجهت دون وعى كامل منى نحو مخبز فى كل بلد أو حتى قرية أزورها. تصطادنى الرائحة فأمشى باتجاهها، معتذرة ممن يشاركوننى المشوار إذ أنا فعلا لا أحاول حتى أن أقاوم هذا الانجذاب وإن كلفنى بضع دقائق إضافية. علاقتى مع الخبز مركبة، متكاملة، معقدة جدا فيما تحمله من قصص. تبدأ مع تعلقى برمزية القمح تاريخيا وبصور زراعته وحصاده وأغانى الفلاحين وقصائدهم على مدى التاريخ. تتبرعم علاقتى مع الخبز حين أتخيل لقمة منه مغمسة بقليل من زيت الزيتون تدخل فم طفل يبدأ للتو علاقته مع عالم أكبر من ثدى أمه. تتطور علاقتى مع الخبز حين أغمض عينى فى لحظة توتر لأستحضر رائحة فرن صغير يختبئ فى حارة فى دمشق أو بيروت فى ساعات الصباح الباكرة. صاحب الفرن ستينى نحيل الجسد أزرق العينين يغطى الدقيق شعره، أم تراه شيبا قد اجتاحه فاختلط بالدقيق على مدى السنوات؟ هنا تتبلور علاقتى مع الخبز: لا رائحة فى الدنيا تعادل عندى رائحة الرغيف الطازج بما يحمله من دفء، فى كل مرة أشم فيها رائحة الخبز أتخيل يدى جدتى الغضتين تربتا على شعر طفلة فى الخامسة من عمرها قبل النوم. فى كل مرة تدخل رائحة الخبز إلى نفسى أرى حضن أمى يكبر ليسعنى وأنا امرأة لم تعد طفلة، يتمدد حضن أمى مع تمددى تماما كما فى إعلانات كراسى الأطفال التى تكبر مع الطفل، لقد سبقها وسوف يستمر بعدها دوما وأبدا حضن الأم فى التكيف مع حجم الطفلة بينما تغلف الاثنتين رائحة الخبز الطازج.
***
حين ولد ابنى الأكبر أذكر أننى كنت أستنشق رائحته من رأسه فأشم رائحة الخبز، لم أعرف وقتها كيف أشرح لمن حولى أن رائحة المولود الجديد هى رائحة رغيف خرج للتو من فرن يدور تولد فيه مئات الأرغفة يوميا، رائحة حياة أجمل رمز لها هو القمح وعجوز يخبز ومولود تفطمه أمه على لقمة خبز مغمسة فى زيت الزيتون.
***
اليوم تمر عائلتى بمحنة نحاول التكيف معها، أهرب إلى أزقة المدينة الصغيرة التى نحن فيها بحثا عن تلك الرائحة، وأجدها فعلا عند عجوز لا يحكى لغتى إنما يفهمها حتى فى غربتى هنا، يبتسم حين أشير إلى كعكة بالسمسم خرجت من الفرن للتو، يحاول أن يفهمنى أن على الانتظار قليلا حتى تبرد فأهز برأسى. سوف أنتظر ريثما أتنفس ملء روحى فأملؤها بهذه الرائحة، رائحة بيت بعيد وحارة فى مكان آخر، رائحة جد رحل ووالد كان طفلا يشترى كعكة أظن أنها مثل تلك التى أمامى فقد وصفها لى مئات المرات حتى رأيتها هنا وفهمت قصده. سوف أقف هنا فى المخبز القديم أنظر إلى أهل الحى يشترون حاجتهم اليومية من «العيش» وسوف أتذكر جزءا من صلاة لطالما اتخذتها تعويذة «أعطنا خبزنا كفاف يومنا». أعطنى خبزى وبعضا من الحب، أقول وأنا أعطى للخباز ليرة مقابل الكعكة. الخبز والحب، الحب فى عجينة الخبز، وإلا كيف أفسر أن فى تلك الكعكة من يد الختيار سحر يغلف قلبى بورقة من الحرير ويطبطب على روحى، فى هذه المدينة الغريبة التى أشعر فى حاراتها أننى تقمصت روح جدتى؟
***
أعطنى خبزى وبعضا من الحب كفاف يومى، وأظن أننى سوف أتدبر أمورى بشكل جيد بعد ذلك. الخبز والحب متلازمان فى قلبى، رائحة الخبز تشى بصباحات تشرق على من أحب فتذوب معها الخلافات، رغيف من الحب آخذ منه قضمة فتسكن حرب مشتعلة فى داخلى، رائحة كالسحر تنتشر فوق الرؤوس فتهدأ النفوس. أعطنى خبزى وبعضا من الحب وسوف أجلس وحدى أمام البحر أنظر إلى الأفق وأتساءل ربما لم تصف النفوس بسبب شح الخبز وجفاف القلوب؟