توقعات لمستقبل يغلب على ملامحه العنف

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 24 يوليه 2024 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

يصلنى من أصدقاء ومراقبين فى عواصم غربية وشرق أوسطية ما يشى بأن هدوءًا غريبًا فى ملامحه يخيم على أجواء تبدو للعين الفاحصة والمدققة قلقة ومضطربة. عندى من وجهة نظرى المتواضعة، ما يعزز مضمون هذه الرسائل ويربط بينها وبين تغيرات وتطورات تتابع وقوعها فى الأسابيع الأخيرة.
• • •
قرأت وثيقة طويلة صادرة قبل أيام عن السلطة الفلسطينية فى رام الله، وسمعت بعد قراءتها مسئولًا كبيرًا يكرر ويؤكد ما جاء فيها ويعمق مراميها ويستفيض فى شرح معانيها ويبرر صدورها. مسئولون آخرون من مستويات نفوذ وسلطة أقل وأشباه مثقفين كانوا قد دأبوا خلال عشرة شهور من الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة الغربية على التلميح قبل التصريح بأهم النقاط التى استندت إليها الوثيقة عندما صدرت.
أقتبس من الوثيقة».. ورغم إدراكنا أن دولة الاحتلال لا تحتاج إلى مبررات وذرائع لتنفيذ جرائمها بحق شعبنا، فإنها فى الوقت نفسه تستفيد من أى ذريعة تجدها لتبرير ما ترتكبه من جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية بحجة أنها تدافع عن نفسها، ما يجعل أى جهة تقدم الذرائع لها شريكًا فى تحمل المسئولية عما يلحق بشعبنا من مآسٍ ونكبات على يد قوات الاحتلال.. وتعتبر الرئاسة حركة حماس.. شريكًا فى تحمل المسئولية القانونية والأخلاقية والسياسية عن استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية فى قطاع غزة بكل ما تتسبب به من معاناة ودمار وقتل لشعبنا، انتهى الاقتباس.
• • •
أول ما خطر على ذهنى كانت المقارنة مع الموقف الروسى على امتداد الحرب العالمية الثانية من الغزو الألمانى للوطن الروسى، واستمرار تمجيد هذا الموقف إلى يومنا هذا حتى صار جزءًا خالدًا من التراث القومى لروسيا. فقدت روسيا خلال صمودها ومقاومتها 26.6 مليون مواطن بين مدنيين وعسكريين.
خطر أيضا على بالى أن مصر فقدت فى حرب أكتوبر ضد العدو الإسرائيلى 10 آلاف مواطن بين مدنيين وعسكريين. أعرف أن مصر كانت وما تزال فخورة بما قدمت من ضحايا فى سبيل استعادة جزء من وطنها الغالى من براثن عدو شرس ومتواطئ مع الولايات المتحدة التى أسرعت فأقامت جسرًا جويًا أنقذت شريكها الإسرائيلى من نصر مصرى كان ممكنًا.
الشىء بالشىء يذكر. فالتاريخ يقدر عدد الفيتناميين الذين قتلوا وهم يقاومون القوات الأمريكية بحوالى ثلاثة ملايين وثمانمائة ألف شخص. انتهت الحرب بتحرير فيتنام وتوحيدها بفضل تضحيات قوات الفيتكونج وانتصاراتها على العدو الأمريكى وبفضل صمود الشعب الفيتنامى. مرت الأيام لنرى أمريكا، وهى تسعى اليوم لإقناع فيتنام بخطورة التهديد القادم ناحيتها من جانب الصين، أملًا فى ضمها لحلف تقوده أمريكا جارٍ تشكيله من دول إندوباسيفيكية.
وغير بعيد عن الذاكرة العربية رقم المليون شهيد جزائرى الذين بشهادتهم وتحت قيادة قادة عظام دخلوا التاريخ من بوابة المقاومة المسلحة التى حققت للجزائر الاستقلال فى حرب شنتها ضد الإمبراطورية الفرنسية وانتصرت فيها عسكريًا وسياسيًا.
ما زلت أجد صعوبة فى الاقتناع بأن شعبًا واقعًا تحت الاحتلال استطاع أن ينتزع الاستقلال من محتل شرس وعنيد دون مقاومة وطنية مسلحة تشن ضد قوات هذا الاحتلال ومستوطنيه أو على الأقل التهديد بها إلى حد يجعل الاحتلال والاستيطان عملية مكلفة للعدو بشريًا وماديًا.
• • •
لم أقابل مسئولًا عربيًا أثق فى أمانة لسانه ودقة أحكامه إلا وقال إن ما تعانيه حكوماتنا العربية إنما ناتج، بين أشياء أخرى، عن لؤم أجنبى يخطط لوقيعة بعد أخرى، مرات بين الدول الشقيقة ومرات داخل كل منها. قال أيضًا إن ما تشهده الساحة الفلسطينية ليس أكثر من نموذج لهذا اللؤم أكثره وارد من خارج فلسطين وبعضه من صنع داخل معروف لا يقل لؤمًا وبالتأكيد سيئ النية وفاسد وعاجز إلا فى خدمة دولة الاحتلال وحالة الأمر الواقع.
بناء على ذلك أتوقع فى الأيام المقبلة، وأرجو أن أكون مخطئًا، تدهورًا أشد فى العلاقات العربية- العربية، وتدهورًا فى أداء العمل العربى المشترك فى مجالات الأمن الإقليمى والتكامل الاقتصادى وتدهورًا فى أحوال الاستقرار السياسى فى بعض دول المنطقة.
• • •
بعد صدور بيان السلطة الفلسطينية بأيام قليلة صدر عن منظمة هيومان رايتس واتش المعنية بحقوق الإنسان تقريرًا أثار غضبًا أكبر من الغضب الذى أثاره بيان السلطة الفلسطينية. يتحدث التقرير بغير مناسبة عن أحداث 7 أكتوبر فيما يسمى بغلاف غزة. أراد التقرير تذكيرنا بحملة حماس العسكرية وضحاياها مركزًا على اتهامات بقتل أطفال واغتصاب نساء وغيرها من اتهامات نشرت فى وقتها ورددها بشكل صبيانى الرئيس جو بايدن ومساعدوه وأكثرهم ورئيسهم من الصهاينة حسب زعمهم. أغفل التقرير عن عمد ذكر مناسبة إصدارها فسنوية هذه الحملة باقى عليها ما يزيد على شهرين، أغفل أيضًا حقيقة مهمة، وهى اعتراف الرئيس الأمريكى فى مرحلة لاحقة بأن بعض الاتهامات التى وردت فى التقرير كانت زائفة. لاحظنا، وللأسف الشديد، أن المسئولين عن إصدار هذا التقرير أغفلوا بين ما أغفلوا، عن عمد مؤكد، الإشارة إلى الأعمال، التى ارتكبتها إسرائيل فى الضفة الغربية وتجاوزاتها بصفتها دولة احتلال وتغافلها عن أعمال المستوطنين، وكلها وغيرها كثير مهد للحملة التى قادتها حماس فى غلاف غزة.
• • •
واضح تمامًا لنا على الأقل أن هناك من قرر الإسراع بإطلاق حملة إعلامية وسياسية للتخفيف من الآثار الضارة التى تسببت فيها الحملة الإسرائيلية ضد قطاع غزة ليس فقط على سمعة إسرائيل بل سمعة الصهيونية وأهم منها سمعة اليهود. (لذلك، وإلى جانب ما صدر أو أعلن أو تسرب حتى الآن، كنت واحدًا ممن توقعوا أنشطة واختراقات وضغوطًا وأعمالًا تنفّذها الكيانات الصهيونية العالمية بنفسها أو توكلها إلى كيانات إقليمية ومحلية متواطئة معها أو مستفيدة منها أو كيانات تخشى غضبها وتحسب حسابًا لقدرتها على الردع والضغط).
• • •
توقعت، وما زلت أتوقع، تكثيفًا للحملة الإعلامية والسياسية فى بعض دول الغرب ضد جنوب إفريقيا ودول أيدتها ودعمتها وحملات أشد ضد الرأى الاستشارى لمحكمة العدل الدولية وإجراءات تتخذها المحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل، بسبب ما ارتكبت وتسببت من أعمال إبادة وتهجير.
توقعت أيضًا، وما زلت أتوقع، حملات مدبرة ومدروسة تشنها أجهزة إعلامية دولية ضد الأمم المتحدة، المنظمة الدولية التى استمرت تساعد الشعب الفلسطينى بالمؤن والأدوية فكانت عائقًا ضد سرعة تحقق هدف تهجير الفلسطينيين من فلسطين إلى شتات جديد. يؤخذ عليها أيضًا أن بيروقراطيتها استمرت تستعمل عنوان فلسطين العضو المراقب واستمرت تصدر قرارات بأغلبية كبيرة تدين إسرائيل. أتوقع الآن زيادة كبيرة فى أعمال الحرب الصهيونية ضد الأمم المتحدة ووكالاتها ومؤسساتها وضد العاملين فيها كما فعلت مع موظفى الأونروا والإغاثة الصحية فى غزة والضفة الغربية.
• • •
توقعت توقعًا جانبه الصواب. توقعت أن يتفاقم الحرج داخل الدول المطبعة مع إسرائيل عن اقتناع والمطبعة تحت ضغوط بعضها تعذر مقاومته، توقعت أن تتمرد دولة أو أكثر استشعرت حكومتها خطرًا أو آخر نتيجة تعمد إسرائيل إحراجها أمام شعوبها وأمام حكومات عالم الجنوب وبعض شعوب وحكومات الغرب.
• • •
خرج علينا نتنياهو بقرار فى الكنيست لم يعترض عليه نائب واحد. جاء فى نص القرار رفض المجلس لفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة ضمن مبادرة ما عرف بحل الدولتين. ليته نفذ تهديده ووعيده قبل سنوات، لو فعل لوفر علينا وعلى العالم متاعب قاسية ومذابح وحرائق ودمارًا هائلًا. أنا ومعظم أبناء جيلى، كنا على امتداد سبعين عامًا وأكثر، نعرف أن هذه هى نية الصهيونية. نيتها إقامة إسرائيل الكبرى كما ظهرت فى خريطة حملها نتنياهو أثناء خطابه الأخير فى الجمعية العامة. سايرتنا بعض أجهزة الدولة الإسرائيلية ولها أسبابها، لكن عندما وقع رئيس الحكومة الإسرائيلية على اتفاق أوسلو قتلته عناصر فى الدولة العميقة. أتوقع مواجهات بين دول فى الغرب وربما فى رئاسة مفوضية الاتحاد الأوروبى وبين اليمين الإسرائيلى الجديد حول هذا البند فى الصراع العربى الإسرائيلى. ولا أشك للحظة بأنه ما يزال فى جعبة الجانب الصهيونى فى هذه المواجهة أساليب أكثرها لن يراعى تقاليد أو حدود.
• • •
أتوقع مزيدًا من الميل الروسى والصينى إلى ناحية الحق الفلسطينى بما يعنى إعادة إدماج المسألة الفلسطينية فى أتون الصراع بين أقطاب العالم. هذا الميل كفيل وحده بإعادة الشرق الأوسط إلى مكانه فى قلب منظومة الأمن والسلم الدوليين. أتوقع زيادة فى معدلات تسلح دول المنطقة وزيادة فى عدد النزاعات والخلافات بين الدول العربية وفى حدتها، وبالتالى أتوقع، وأتمنى ألا يحدث، زيادة فى مستويات العنف والتوترات الداخلية فى دول المنطقة.
• • •
نرى، وأتابع شخصيا، الدور الذى تقوم به منظمات ومؤسسات وقيادات الحركة الصهيونية لاستعادة الهيمنة التى كانت تمارسها على مختلف أنشطة العمل الأكاديمى والإعلامى فى دول الغرب ودول أخرى، وهى الهيمنة التى أصيبت بضرر بالغ نتيجة ردود الفعل لحملة الإبادة فى الجامعات ومراكز البحوث والمواقع الإعلامية ومختلف حصون الصهيونية فى دوائر الفنون وغيرها. نراهم يتصرفون بكثير من المبالغة فى تضخيم الضرر الذى أصاب هذه الهيمنة وبالتالى المبالغة فى تعظيم وتنويع الإجراءات المضادة. أتوقع حربا لا هوادة فيها. بوادرها غير خافية كما تكشف عنه الأوضاع السياسية والإعلامية فى ألمانيا تحديدا، باعتبارها المسرح الذى تجرى فيه الصهيونية أهم تجاربها فى الهيمنة والتوعية والسيطرة والابتزاز.
• • •
هناك فى بريطانيا، الدولة العجوز فى كل شيء حتى فى علاقتها بالصهيونية، ربيبتها، غير خاف ما يدور فى داخل حزبيها الرئيسين من حرب ضروس وعمليات تطهير واسعة. غير خاف أيضًا ما يدور داخل الجماعات التشريعية والأكاديمية والحزبية والإعلامية فى الولايات المتحدة الأمريكية والحديث عنها يطول.
• • •
أخشى أن نكون على حافة عنف إقليمى، وربما امتدت إحدى شراراته خارج حدود الإقليم فيصير عنفًا دوليًا. لا أستهين بالضربة التى تلقتها الصهيونية سواء على مستوى غزة أو على مستوى ساحات الغرب وإفريقيا والعالم على اتساعه. لكنها ليست الضربة القاصمة فقدرتها على مواصلة التهديد والابتزاز والوقيعة وشراء نواب وشيوخ وسياسيين وعملاء والتجارة فى البشر والسلاح والمخدرات وغسيل الأموال ما تزال قدرة مؤثرة وفاعلة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved