الرجل الذى أنزل العلم

ابراهيم عرفات
ابراهيم عرفات

آخر تحديث: الأربعاء 24 أغسطس 2011 - 9:47 ص بتوقيت القاهرة

كل مرة عبرت كوبرى الجامعة متجها إلى مقر عملى فى جامعة القاهرة كنت أشعر باستفزاز شديد. مثلى فى ذلك مثل ملايين. أفهم أن يكون لمصر معاهدة سلام مع إسرائيل.

وأعرف أن ما لا تطيقه أحيانا كمسألة مبدأ عليك أن تقبله كأمر واقع لأن السياسة ليست عنتريات وإنما حسابات باردة تتطلب مسايرة ذكية لموازين القوى. وأفهم بالمثل أن يكون لإسرائيل سفارة طالما أن هناك معاهدة. لكن أن يرفرف علمها وحيدا من بين أعلام كل السفارات الأجنبية فى القاهرة على ارتفاع شاهق على النيل فأمر بالغ الاستفزاز. كان المصريون سيتظاهرون أمام السفارة الإسرائيلية حتى لو كانت فى بدروم مبنى متهالك فى حى ناء.

لكن شاءت الأقدار أن تكون ذروة المظاهرة جاذبة بشدة للكاميرا. وعام 2011 هو بامتياز عام الكاميرا. بدأ فى يناير بمشاهد بطولية للمصريين ضد الظلم المحلى وها هو فى أغسطس يقدم صورة ملحمية فريدة ضد الظلم الخارجى. والصورة لأحمد الشحات، هذا الشاب الذى غامر لينزل العلم الخطأ ليرفع مكانه العلم الصحيح.

صورة تستحق أن توضع على غلاف الصحف والمجلات. سيتهمه البعض وسيمجده آخرون. قد يرميه البعض بأنه بلطجى وصاحب سوابق بدليل أنه تسلق المبنى الشاهق كما يفعل عتاة اللصوص. وقد يسخر البعض منه فيقول إن هذا الشاب صاحب اللياقة البدنية الرائعة أراد أن يلفت انتباه أحد الأندية الرياضية إليه لكى توقع معه عقدا.

ويمكن أن يتهم بأنه خالف تعليمات الأمن لأنه لو كان سقط صريعا وهو يتسلق أو قتلته قوات أمن السفارة لكان أشعل نيران غضب فى مصر كان من الصعب إطفاؤها.

●●●

لكن أحمد وصل وأنزل العلم وعاد إلى الجماهير التى احتفت به احتفاء هائلا هو أكبر حماية له من كل ما قد يكال ضده من اتهامات. ما فعله أحمد الشحات أنه سلط الضوء على عمق الجرح الوطنى عند المصريين الذين بحثوا عن دواء له إلى أن وجدوه فى ثورة يناير. فقبل يناير كان كل المصريين، باستثناء النخبة الفاسدة المعزولة عن نبض الشارع، يشعرون بعدم اتساق شديد لأن بلدهم يملك التاريخ وكل مقومات النجاح لكنه يعيش بين الأمم فى القاع.

ولهذا كانت الثورة لتصحح هذا الخلل فى المكانة. وكان تسلق أحمد متسقا مع روح الثورة ومطلبها. قد يكون فيه من الإثارة والدراما ما لم يكن متوقعا لكن فيه ما يؤكد بلا لبس رغبة المصريين فى رفع الرأس بعد سنوات طويلة من الانكسار. ولولا الثورة لما كان أحمد قد تسلق العمارة وأنزل العلم.

هذا الشاب الذى أنزل العلم قدم ملمحا جديدا من ملامح التغيير الجارى فى مصر والذى يحتاج إلى كثير من الضبط والتنظيم. فمصر تحتاج إلى أن تبين صلابة عودها أمام الخارج وبالذات أمام إسرائيل دون أن يراود أحد من رعاة التغيير فيها أو من متابعيه من الخارج أن عقارب الساعة قد تعود إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضى. مصر الصلبة بعد سنوات مرة من التعلم هى مصر المقاتلة من أجل التنمية والعلم والديمقراطية وهى المواد الخام التى تستطيع بعيدا عن الدبابات والطائرات أن تعالج الجرح الوطنى الغائر وأن تعيد للمصريين الشعور باتساق المكانة. فوقتها لن يحتاج أحمد أو غيره كل هذا الجهد لإنزال العلم الخطأ ووضع العلم الصحيح.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved