اللاجئون السوريون فى مصر
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 24 أغسطس 2019 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
أثار خلاف بين مواطنة مصرية وصاحب مطعم سورى فى مدينة الإسكندرية، ورسالة «الاستغاثة» التى بعثت بها المواطنة إلى رئيس الجمهورية، ردود أفعال واسعة النطاق فى مواقع التواصل الاجتماعى، انتقلت إلى وسائط الاتصال التقليدية ومنها صحيفتنا، «الشروق» الغراء. ليس الخلاف ذاته وكنهه موضوع هذا المقال، فالخلاف تناولته أقلام قديرة بالفعل ثم إنه من نوع الخلافات التى تنشأ بين البشر، خاصةً عندما يغيب تطبيق القانون الذى ينظم العلاقات بينهم. ردود الفعل واسعة النطاق على الخلاف انقسمت بين مؤيد لشكوى المواطنة من «جور» اللاجئين السوريين على المصريين، ومنهم من زايد فاشتكى، بين أمور أخرى، من أنهم يستولون على فرص عمل، المصريون أولى بها. لحسن الحظ، انبرت ما يعتبره كاتب هذه السطور أغلبية جارفة لمواجهة هذه الدعاوى وللترحيب بأهل سوريا فى مصر. هذا المقال ينضم إلى هذه الأغلبية ويتناول بالتفنيد جوهر هذه الدعاوى وهو أن أهل سوريا عبء على مصر والمصريين.
***
عدد اللاجئين السوريين المسجلين لدى مكتب المفوضية السامية لشئون اللاجئين فى مصر يبلغ 131,000. قارن هذا الرقم بعدد اللاجئين السوريين المسجلين حاليا فى لبنان والأردن والذى يبلغون المليون تقريبا فى لبنان وحوالى السبعمائة ألف فى الأردن. نسبة اللاجئين السوريين إلى السكان فى مصر تبلغ 0,0013 فى المائة أى أن واحدا من كل مائة ألف من السكان فى مصر سورى. حتى إذا أخذنا التقدير الذى ذهبت إليه السلطات المصرية فى الاعتبار منذ سنوات وهو أن إجمالى اللاجئين السوريين المسجلين وغير المسجلين فى مصر يصل إلى 300,000 فإن نسبهم إلى السكان ستبلغ 0,003 أى أن ثلاثة من كل مائة ألف ساكن ــ سوريون. هل هذه أو تلك نسبة يعتد بها فى أى حساب؟ النسبة المقابلة للاجئين المسجلين وحدهم فى كل من لبنان والأردن هى حاليا 16,6 فى المائة وفى الأردن 7 فى المائة. بعبارة أخرى، 17 من كل مائة من السكان فى لبنان وسبعة من كل من مائة فى الأردن سوريون. المقارنة تستدعى الحياء. واللاجئون الـ 131,000 فى مصر يعيشون فى 44000 أسرة معيشية حسب أرقام المفوضية السامية. هذا معناه أن كل أسرة معيشية تتكون فى المتوسط من حوالى ثلاثة أفراد. الأسرة المعيشية هى فرد أو مجموعة من الأفراد يعيشون فى مكان واحد ويشتركون فى وجبات الغذاء. معدل مشاركة اللاجئين فى النشاط الاقتصادى، بعبارة أخرى اشتراكهم فى سوق العمل، منخفض بشكل عام فى كل مكان. ولكن لنفترض أن واحدا من كل ثلاثة أعضاء فى الأسرة المعيشية يشترك فى النشاط الاقتصادى، أى أن 44,000 سورى يعملون أو يبحثون عن عمل. بل فلنفترض أن هذا المعدّل ينطبق على الـ 300,000 لاجئ الذين قدرتهم السلطات فيصل عدد المشاركين فى النشاط الاقتصادى إلى 100,000. قس هذا العدد أو ذاك بقوة العمل المصرية التى تصل إلى الثلاثين مليونا. هذا القياس سيبيّن أن المشاركين السوريين فى النشاط الاقتصادى يمثلون 0,001 أو 0,003 على أقصى تقدير أى أن واحدا أو ثلاثةً من كل مائة ألف مشارك فى سوق العمل المصرية سورى أو سوريون. هل هذه نسبة يمكن أن تؤثر بأى شكل من الأشكال فى سوق العمل المصرية وفى تشغيل المصريين؟
ثم إنه ليس كل السوريين الذين لاذوا بمصر ممن يعملون أو يبحثون عن عمل لدى الغير. صاحب مطعم الإسكندرية نفسه خير مثال على ذلك. تقرير صادر فى سنة 2017 عن ثلاث من وكالات الأمم المتحدة وبرامجها هى برنامج الأمم المتحدة الإنمائى ومنظمة العمل الدولية وبرنامج الأغذية العالمى تحت عنوان «توفير فرص العمل يحدث الأثر المنشود» يكشف عن أن استثمارات السوريين فى مصر بلغت 800 مليون دولار. عندما ينشئ اللاجئون أو المهاجرون فى أى مكان مشروعات اقتصادية فهم يضيفون إلى الناتج المحلى الإجمالى فى البلد المعنى وينشئون فرص عمل لأبناء هذا البلد أنفسهم سواء بشكل مباشر أو غير مباشر كأثر مضاعف للاستثمار، فضلا عن الاستهلاك.. ومصر ليست استثناء من بين البلاد، بمعنى أن منشآت السوريين فى مصر من محال ومطاعم ومصانع أنشأت فرص عمل وشغّلت مصريين.
غير أن للحديث فى مصر عن فرص العمل التى ينتزعها من المصريين «الأجانب»، وهم السوريون فى هذه الحالة، جانبا مدهشا لسبب آخر، غريبٌ أنه لم يخطر على بال من يصدر عنهم. كيف يمكن أن يصدر هذا الكلام فى بلد يعيش ستة ملايين من أبنائه، فى تقدير المتخصصين، «أجانب» فى بلدان أخرى، يعملون ويحققون بعرق أجبانهم دخولا يحولون الجانب الأكبر منها إلى مصر، حتى إن تحويلاتهم وصلت فى تقديرات البنك الدولى إلى 28.9 مليار دولار فى سنة 2018 مثلت 11,6 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالي؟ بعبارة أخرى، عادلت قيمة التحويلات أكثر من واحد على عشرة من كل ما أنتجته مصر من سلع وخدمات فى 2018. التحويلات كانت المصدر الأول للعملة الأجنبية فى مصر فى السنوات الأخيرة التى انكمشت فيها السياحة الدولية. ألا يمنح هذا الكلام الذى يعدم أى أساس فى الواقع وقودا لدعاة حماية أسواق العمل الوطنية، وللمتطرفين القوميين المعادين للأجانب فى البلدان التى يعمل فيها المصريون ويكدّون ليعيلوا أسرهم ويساندوا الاقتصاد المصرى برمته فيستفيد بشكل مباشر أو غير مباشر نفس أولئك الذين ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ أهل سوريا وكل من هم أو ما هو «أجنبى» فى مصر؟ متوقعٌ أن البعض قد يقول إن المصريين فى بلدانِ هجرتِهم مجتهدون، بينما اللاجئون و«الأجانب» عالة على مصر. أول ردّ لذلك هو مرة أخرى فى مثال صاحب مطعم الإسكندرية والمئات أو الآلاف غيره الذين أنشأوا مشروعات فى مصر. أما الرد الثانى فهو أن هذا القول بحرفه يسوقه فى حق المهاجرين المصريين وغيرهم عدد من المتعصبين المتطرفين فى بعض البلدان التى يعملون فيها والذين كانوا هم أنفسهم مهاجرين. بعض قدامى المهاجرين الإيطاليين فى مصر أو أبناؤهم، مثلا، يقولون إنهم أتوا إلى مصر فى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين بمهارات ومعارف ليشتركوا فى تحديثها، بينما المهاجرون المصريون لا يساهمون بأى شكل مفيد. لحسن الحظ أن هؤلاء المتعصبين قلة ولكن هل يريد أحد من بيننا منح ما يقولونه أى شرعية بتكراره فى حق أهل سوريا أو غيرهم، على الرغم من مجافاته لواقع ما حدث أو يحدث؟
***
نترك مناقشة الموضوع اقتصاديا ونتناول سريعا جانبه المتعلق بالقانون الدولى. القانون الدولى للاجئين بمقتضى كل من قواعده العرفية واتفاقية سنة 1951 بشأن وضع اللاجئين يلزم الدول الأعضاء فى المجتمع الدولى باستقبال من يلجأ إليها هربا من الاضطهاد فى بلاده وتوفير الحماية له. مصر طرف فى الاتفاقية وفى بروتوكولها الملحق الصادر فى سنة 1967، وهى كذلك، وللعلم، طرف فى اتفاقية منظمة الوحدة الإفريقية لسنة 1969 بشأن المشكلات الخاصة باللاجئين فى إفريقيا. أن تكون مصر طرفا فى الاتفاقيات المندرجة فى كل أفرع القانون الدولى، من القانون الدولى لحقوق الإنسان مرورا بالقانون الدولى للعمل وصولا إلى القانون الدولى للاجئين وغير هذه من أفرع، مما يشرف مصر والمصريين. وتَشَرُّفُهم يزيد عندما لا تكتفى مصر بالانضمام للاتفاقيات بل تضيف إليه تطبيقها بحسن نية وأمانة. سمعة الدول عظيمة الأهمية لتحركها فى المجتمع الدولى وهى تقاس باحترام الدول للقانون الدولى وغير الدولى. وللاحتياط، نسارع إلى القول بأن عدم احترام دول أخرى، قريبة أو بعيدة، صغيرة أو كبيرة، للقانون الدولى ليس مبررا لعدم مراعاة أحكامه. أما من باب القانون الداخلى فإن مصر تقرّ بالحق فى اللجوء إليها منذ دستور سنة 1923.
***
ولكن ثمة جانبا سياسيا شديد الأهمية فى موضوعنا كان من الجدير بمن يزعمون الغيرة على مصلحة مصر والمصريين أن يأخذوه فى الاعتبار. فى الثقافة السياسية المصرية حرص على اعتبار مصر «الشقيقة الكبرى» بين الدول العربية وهو حرص تشترك فيه الأغلبية الساحقة من المصريين. أن تكون الشقيقة الكبرى يرفع من مستوى مكانة مصر فى المجتمعين الإقليمى والدولى، ولهذه المكانة مردود معنوى غير ملموس ومردود مادى ملموس. المردود يرجع إلى اعتبار أنها تستطيع بمكانتها أن تؤثر فى مواقف شقيقاتها. أليس لهذه المكانة ثمن؟ أليس على الزعيم واجبات تجاه من يتزعمهم حتى يرتاحوا إلى زعامته؟ أليس على الشقيقة الكبرى مهام تضطلع بها تجاه شقيقاتها وأبنائهن؟ النكوص عن التزام مصر بحماية مواطنى الدول العربية الأخرى، وكذلك الإفريقية، المحتاجين إلى الحماية هو انتقاص من قدر مصر وتقويض لمصالحها ومصالح مواطنيها.
فليعش أهل سوريا مكرّمين فى مصر، وليجتهدوا حتى تتحقق مصالحهم وينتفع المصريون.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة