المؤمن!
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
الأحد 25 أغسطس 2024 - 12:20 ص
بتوقيت القاهرة
يبدو أننا لا نتعلم، أو ربما لا نريد أن نتعلم، بل أشك أن البعض منا قد انسجم مع لعبة التظاهر بعدم التعلم، فربما هى بالفعل لعبة مربحة للبعض! نحن فى عالم شئنا أم أبينا تنتشر فيه الأفكار مهما كانت غريبة أو شاذة أو صادمة! مهما كانت القيود ومهما صنعنا من سدود، فعصر التكنولوجيا ومواقع التواصل لا يعترف بالرقابة على الفكر، صحيح تستطيع أن تعاقب صاحب الفكر، لكنك لن تستطيع أبدًا أن تمنع انتشاره، ورغم ذلك مازال البعض يحاول المنع معتقدًا أنه سينجح!
ربما يمكنك فى العصر الحالى أن تجبرنى على عدم البوح بقناعاتى الدينية أو السياسية أو الثقافية، لكنك لن تتمكن أبدًا من أن تنتزعها من ضميرى ووجدانى ومشاعرى وعقلى، بل لن تستطيع أن تمنع رغبة الآخرين فى معرفة هذه الأفكار وتلك المشاعر، ربما تتمكن لسنوات أو حتى لعقود، لكن الفكر فى النهاية سينتشر شئت أم أبيت، هذا ما يقوله التاريخ لا ما أقوله أنا على سبيل الشعارات!
كم من أفكار، أو كتب، أو أبيات شعر، أو أعمال فنية مُنعت رسميًا، لكنها انتشرت فى الشارع، فى البيوت، بين الأصدقاء والمعارف؟! كم مكتبة أو دار كتب تعمل فى دول غير ديموقراطية تعرض الكتب المسموح بها رسميا فقط على الأرفف، بينما تتمكن من التجارة فى كل الممنوع من الكتب والأعمال وبيعه خلف نفس هذه الأرفف؟!
أتذكر حينما كنت طالبًا فى العام الثالث فى مرحلة البكالوريوس قبل نحو ربع قرن من الزمان كيف أن أزمة كبيرة قد انفجرت فى مصر حينما قررت وزارة الثقافة إعادة طبع رواية «وليمة لأعشاب البحر» للكاتب السورى الراحل حيدر حيدر الذى نشرها للمرة الأولى عام ١٩٨٣، وكيف انفجرت المظاهرات والمواجهات فى مصر وبعض الدول العربية لمجرد أن بعض التيارات الإسلامية ادعت أنها رواية «تسىء للإسلام»، بل تبنى الأزهر موقفًا واضحًا ضد الرواية فى جدل استمر لشهور ووصل إلى اتهامات معتادة تتراوح بين التكفير والضلال وفى أحسن الأحوال الاتهام بالتنازل عن القيم الإسلامية والأصالة الثقافية!
أين ذهبت هذه الرواية الآن؟ الحقيقة أنها موجودة فى كل مكان ومتاح منها آلاف النسخ بعشرات الطبعات، منها الورقى والإلكترونى! حينما قرأت الرواية لأول مرة فى عام ٢٠٠٨ بعد أن أهدانى إياها صديق عراقى فهمت كيف أن معظم من تنتفخ عروقهم بينما يتبارون فى كيل الاتهامات لمثل هذه الأعمال فى الأغلب لم يقرأوها بل سمعوا عنها وقرروا حمل لواء الدفاع عن الدين من أعداء وهميين!
• • •
حينما سمعت عن «منع» أو «تأجيل» عرض فيلم «الملحد» والجدل الذى صاحب هذا المنع أو التأجيل، تذكرت كيف تتكرر مواقفنا الممانعة تجاه الأعمال الفنية والإبداعية، مهما اختلفنا أو اتفقنا حول كتّابها، لكن تبقى سطحية التعامل والانغلاق الفكرى هى الأساس فى هذه المواقف! فلا أفهم كيف يروج البعض لمقولة أن الفيلم يروج للإلحاد لمجرد ان اسمه «الملحد»! كان الفيلم من المقرر أن يعرض فى مصر فى منتصف شهر أغسطس الجارى، ثم تم تأجيل العرض فجأة، يقال إن العمل سيكون متاحًا فى دور العرض بمصر نهاية الشهر، ويروج البعض الآخر أن الفيلم لن يعرض إلا بعد حذف بعض المشاهد أو العبارات، فى الحقيقة لا أعلم على وجه الدقة ما حدث أو ما سيحدث، لكنى أعلم يقينا أن العمل لم يتاح بعد للجمهور، وبعكس أفلام عديدة للكاتب الشهير، إبراهيم عيسى، فهذا العمل لم يعرض من قبل فى شكل رواية أو قصة، فكيف علم البعض أنه يروج للإلحاد؟ لا أعلم!
أتذكر منذ سنوات طويلة خرجت الإعلانات التجارية لتروج لفيلم يحمل اسم «كباريه» فتبارت نفس التيارات للهجوم، وقال أحدهم فى تصريح ساذج وقتها إن مصر كما أن بها كباريهات ففيها أيضًا مساجد وجامعات، متهما العمل بترويج صورة سيئة عن مصر! والحقيقة أن هذا العمل المميز هو أحد أفلامى المفضلة، ولا أرى فيه أى إساءة لمصر ولا لشعبها! هو عمل يتحدث عن حقائق ومهن موجودة بالفعل، ويطرح زاوية معينة للنقاش حولها أو التأمل فيها، فهل من قال مثل هذا التصريح قد شاهد العمل بالفعل أم هى كالعادة لعبة التظاهر بالجهل والتصدى بالصوت واتخاذ المواقف «الفشنك» من أجل الشهرة أو الحصول على الدعم الشعبى الذى يميل مزاجه للتظاهر بالمحافظة والتدين وأن «كله تمامًا»، بينما يشهد الواقع عادة غير ذلك؟!
ذكرنى هذا أيضًا بأزمة فيلم «ريش» الذى عُرض فى أحد المهرجانات وتعرض للاتهامات بتشويه مصر دوليًا لأنه يتحدث عن الفقر، وكأننا بالفعل لا نرى الفقراء فى مصر ولا نعرفهم! أو أزمة فيلم «أصحاب ولا أعز» الذى اُتهم بالترويج للمثلية والخيانة، مع أن الفيلم- لمن شاهده بالفعل ولم يكتف بالسمع- يناقش مشاكل إنسانية ويعرى الزيف والكذب والخداع بين الأصدقاء والأزواج فى إطار أعمق وأكثر تعقيدًا من مشهد أو اثنين لم يروقا للمزاج المحافظ لجمهور المتدينين أو المتظاهرين بأنهم كذلك!
فى نفس هذا السياق كان فصل أستاذة جامعية منذ سنوات تحت دعوى أنها تروج للإلحاد لمجرد أن قررت على الطلاب بعض القراءات التى لم ترق للجماهير المحافظة التى أثق أن معظمهم لم يقرأ هذه المقررات ولا حتى تصفحها، لكنه الانغلاق ولعبة التكفير والابتزاز باسم الدين أو الدولة أو قيم المجتمع الأصيلة!
• • •
فى كل الأمثلة السابقة، انتشرت الأعمال أو الأفكار وانتصرت على محاولات المنع وعلى «تريندات» المزايدة من أجل الحصول على اللقطة! الأعمال السابق ذكرها تفاوتت فى تقييمها الفنى أو الأدبى بين الجماهير والنقاد والقراء، وهذا حق أصيل لكل الفئات الأخيرة، لكن لم يكن ولن يكون المنع، أو التأجيل، أو الابتزاز، أو الترويع أبدًا هو الحل أو الحق!
أكرر لم أشاهد ولا حتى أعلم أى معلومات عن فيلم «الملحد» باستثناء بعض السطور القليلة المنشورة فى بعض المواقع المختصة، والتى لا يمكن بأى حال من الأحوال أن تمكننى من الحكم على الفيلم أو تقييمه، لكنى مع حق مؤلفه ومنتجه ومخرجه وكل أبطاله فى طرح عملهم للجمهور، ولتكن بعدها التقييمات والاختلافات والمناقشات، أما الاستسهال كالعادة فهو مرض قد ابتُلينا به ضمن عدة أمراض تنتشر للأسف رغم كل المحاولات لعلاجها!
أكرر، لم أشاهد فيلم الملحد، ولكنى رأيت وشاهدت وتعاملت مع ملحدين سواء فى العالم أو فى مصر والمنطقة العربية! وفى رأيى الإلحاد ليس «مرضًا» حتى تتم «مكافحته»، أو اتهام البعض بمحاولة «نشره» أو «الترويج له»، لكنه «فكر»، «قناعة»، «رأى»، بل لنقل وبشكل منطقى أن «الإلحاد» هو فى حد ذاته «إيمانا»! الملحد لا يتحدى الله، لكنه يصل إلى قناعة أو إيمان بعدم وجود الله بعد تجارب حياتية وخبرات مختلفة قد يكون بعضها مؤلمًا ومرتبطًا بما هو أكبر وأشمل مثل السياق السياسى أو الاجتماعى أو الثقافى الذى يعيش فيه، وكما أنك لا تستطيع تغيير قناعة «المؤمن» أو انتزاع هذا الإيمان من قلبه بالقوة، حتى لو أجبرته على التظاهر بغير ذلك، فقناعة الملحد لن تتغير بمنع فيلم أو رواية أو فصل أستاذة جامعية -هذا إن افترضنا من الأصل أن هذه الفئات بالفعل «تروج» للإلحاد- لكن يمكنك فقط تغيير القناعات بالنقاش والمحاورة والجدل السلمى، وإتاحة الحرية والأمان للجميع، للمؤمن والملحد، للمؤيد والمعارض، لمن يتماهى مع قيم المجتمع وعاداته وتقاليده، ومن يقرر أن يخالف ذلك، وإن لم تفعل، فلا سبيل لتغيير القناعات مهما حاولت أو تظاهرت بالمحاولة!
• • •
خطر على بالى سؤال بينما أشاهد الجدل الوهمى حول العمل، هل لو كان صناع الفيلم اختاروا أن يطلقوا عليه اسم «المؤمن» بدلًا من «الملحد» مع الحفاظ على المحتوى كما هو لكان ذلك أفضل وأكثر قدرة على تمرير العمل بسلاسة إلى شاشات العرض والجمهور؟ هل كل مشكلة العمل هو عنوانه، لأننا أصبحنا فقط مهتمين بالمظاهر وغير معنيين بالتفاصيل؟ لو كان هذا هو الحل، فأقترح على صناع العمل، تغيير الاسم فورًا ما دام أن ذلك هو ما يرضى عنه حراس الفضيلة فى مجتمعاتنا حتى يطمئن هؤلاء أن «كله تمام»!
أستاذ مشارك العلاقات الدولية والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر