دوامات الفالس
داليا شمس
آخر تحديث:
السبت 24 أغسطس 2024 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
بدون مناسبة، قررت أن أستمع إلى موسيقى الفالس وأن أغوص تحديدا فى عالم المؤلف المولدوفى، يوجين دوجا، الذى كتب فى سبعينيات القرن الفائت مقطوعتين من الفالس تم تصنيفهما ضمن أفضل مائتى عمل كلاسيكى على مستوى العالم، وهما بعنوان «جرامافون» و«وحش حلو وعذب» (My sweet and tender beast). تخيلت نفسى وأنا ألف فى دوائر مع راقصين وراقصات يتخاصرون ويضمون بعضهم بعضا على أنغامه، رأيت الدنيا بأسرها تلف معى وكأنها اقتربت منى منحنية وقالت: تسمحين لى بهذه الرقصة؟ ارتديت ثياب السهرة وصرت مستعدة للتحليق بعيدا عن واقع مُدمِر. تنفست عميقا واستجمعت شجاعتى وتقدمت ضمن أجساد أخرى كثيرة تغنى وتميل يمينا ويسارا فى شكلٍ يشبه الدوامات التى يحدثها التقاء المد والجزر. نلف وندور، ثم نلف وندور كما تدور بنا الحياة.
• • •
موسيقى يوجين دوجا، ابن قرية «موكرا» التى تقع فى الجهة الشرقية من مولدوفا ضمن إقليم ترانسنيستريا، تستحضر طبيعة بلاده وبحيراتها الهادئة، ما ينعكس على أداء الملحن الثمانينى وهو يعزف على البيانو ضمن الأوركسترا، هاشا باشا، بشعره الأبيض وقد انحسر قليلا إلى الوراء. كان دوما سعيدا أنه ولد أول أيام الربيع فى شهر مارس تحت بريق الشمس. ورغم بساطة نشأته، إلا أنه ظل مملوءا بالرضا والامتنان. يحب اسمه «دوجا» (Doga) الذى يعنى باللاتينية صنفا من أشجار البلوط، تلك التى تحيط بغابات قريته حيث كان يلتقط أوراق الحميض وحبات عش الغراب لكى تطبخها أمه فى طفولته خلال الحرب العالمية الثانية. يتذكر زيارة فرقتين لبلدته، واحدة شعبية وأخرى سيمفونية، ووقوفه وبعض الأصدقاء مشدوهين أمام براعة العازفين تحت قيادة «رجل غامض كان يهددهم بعصاه»، ثم اقترابه من الكمنجات ليلمسها كما لو أنها جاءت من عالم آخر عَرَفَ وقتها أنه يرغب بشدة فى الذهاب إليه، وهو ما فعل فى سن الثالثة عشر حين توجه حافى القدمين إلى مدرسة تعلم الموسيقى فى العاصمة تشيسيناو. درس فيها بين عامى 1951 و1955، وتتلمذ على يد عازف التشيلو الإيطالى جيوفانى بابلو باتشينى الذى فتح له أبواب الجنة، ثم التحق بالكونسرفتوار إلى عام 1960 حيث تعلم أصول التأليف الموسيقى وقيادة الأوركسترا.
اعتاد أن يستيقظ يوميا فى الصباح الباكر، حوالى الخامسة والنصف على الأكثر، ليجلس أمام البيانو ويبدأ فى العمل، حتى أيام الأعياد والعطلات الرسمية، مثلما كان يفعل أستاذه المفضل باتشينى. وقد أثمر هذا النظام الصارم إنتاجا فنيا غزيرا تنوع بين السيمفونيات ورباعيات الآلات الوترية ورقصات الفالس والموسيقى التصويرية للأفلام والأغنيات الرومانسية. لمع نجمه أكثر فأكثر وقد شغل عدة مناصب وانغمس فى مجال السياسة، إذ كان عضوا فى الحزب الشيوعى السوفيتى ونائبا فى مجلس السوفييت الأعلى، ثم بعد تفكك الاتحاد السوفيتى عام 1991 واستقلال جمهورية مولدوفا تم انتخابه ضمن نواب الشعب فى أول برلمان تحظى به بلاده.
• • •
أحاول الابتعاد عن السياسة، وها هى تتاخم دوامات الفالس وتزاحم الموسيقى فى رأسى. أهرب فتلاحقنى، خاصة حين ألاحظ انتماء يوجين دوجا لشريط ترانسنيستريا الضيق الواقع بين نهر دنيستر والحدود الأوكرانية، والذى يحكمه مجموعة من العسكر الموالين لروسيا ويطالبون بالانضمام إليها. ومع تصاعد الحرب فى أوكرانيا كانت هناك تساؤلات مشروعة حول إمكانية توسع رقعة الصراع ليشمل مولدوفا باعتبارها ضمن دول «الفناء الخلفى» لروسيا.
العلاقات بين دول ومواطنى هذه المنطقة غاية فى التعقيد بحكم عوامل التاريخ والجغرافيا ــ التى صرنا نزدريها فى بلدنا الحبيب ــ فبدونها لا نستطيع أن ندرك طبيعة الخلاف والاختلاف، ولا أن نستوعب أسباب تكلم نصف سكان مولدوفا اللغة الروسية والنصف الآخر الرومانية، ولا حتى نتفهم اختيارات يوجين دوجا وانحيازاته وعلاقة المثقف بالسلطة.
• • •
دوائر الفالس تعود بى إلى أجواء الحرب، فهذا القالب الإيقاعى انحسر تدريجيا مع انهيار الإمبراطورية النمساوية المجرية واندلاع الحرب العالمية الأولى، بعدما عرف نجاحا مدويا فى القرن التاسع عشر وانتشر فى كل أوروبا. نغماته الراقصة لم تعد ملائمة لحجم الفظائع والوحشية التى اختبرها الناس، وشعر الفنانون والمؤلفون وقتها بمدى التدنى الحضارى والقسوة والهمجية كما نشعر نحن حاليا، لذا ابتعدوا عن هذا النوع من الألحان خلال الحرب. وحين أراد الفرنسى موريس رافيل أن يبدع عمل «الفالس»، لم يتمكن من إنجازه خلال فترة القتال، واستخدمه كرمز للتعبير عن صعود ودمار الحضارة الغربية، دورة حياة كاملة تلف ونحن غائمون فى حلم ضبابى، يتصاعد الفالس إلى غليان مخيف وينقلب كابوسا وكأن قاعة الرقص تحترق.
لكن حين نعود إليه مع يوجين دوجا فنحن بصدد موسيقى تستدعى الجماليات البصرية والدرامية وخفة الحركة اللازمة أحيانا فى الأفلام السينمائية. مقطوعة «وحش حلو وعذب» على سبيل المثال جاءت ضمن سياق محدد فى فيلم «حادثة صيد» للمخرج إميل لوتينو المأخوذ عن قصة «حفل إطلاق النار» لأنطون تشيكوف الذى يتعرض لأحوال المجتمع الروسى من خلال جريمة قتل تحدث فى قرية صغيرة. الخطوة تتبع الأخرى، الأبطال يدورون بسرعة حول أنفسهم، وأنا ألهث وألف معهم فى دوامة لا تنتهى والمشاهد نفسها تتكرر أمام عينى.