معضلة
رانية فهمى
آخر تحديث:
الإثنين 24 سبتمبر 2012 - 8:30 ص
بتوقيت القاهرة
ماذا لو تعرضت لموقف يهز أهم قناعاتك؟ موقف لم تستطع فيه تطبيق سياسة ولوائح صارمة أنت نفسك شاركت فى وضعها؟
كنت قد كتبت فى مقال سابق عن أكثر ما يؤلمنى فى العمل والحياة مع الأطفال فى ظروف الشارع وهو الإهمال والعنف اللفظى والبدنى والجنسى الذى يتعرضون له فى المنزل والشارع وتدربنا، فى مؤسستنا التى تخدم هؤلاء الأطفال عن طريق جهة متخصصة، على سياسة حماية الطفل من كل أشكال الإساءة داخل المؤسسة.
وخلصنا إلى وضع اربعة خطوط حمراء يحظر على كل العاملين فى المؤسسة الاقتراب منها فى التعامل مع أطفالنا سواء المقيمون معنا فى مركز الإقامة أو المترددون علينا فى مركز الاستقبال وهى: أى شكل من أشكال العنف اللفظى مثل وصم الطفل بأنه طفل شارع، والعنف البدنى وهو اى شكل من اشكال الضرب، والجنسى بدءا من التحرش، والإهمال المتكرر غير المتعمد كأن تنسى مشرفة أكثر من مرة إعطاء طفل الدواء أو أن تغفل عنه اكثر من مرة فيقوم بإيذاء نفسه، مع العلم بأن المشرفة الواحدة المقيمة عليها رعاية 7 أو 8 أطفال صغار. الجزاء عند تخطى هذه الخطوط: الفصل من العمل. ولكن، ماذا لو كانت المعنفة هنا هى الأم ذاتها، وماذا لو كانت الأم نفسها هى طفلة لم تتجاوز الـ18 عاما، تتردد على مركز الاستقبال التابع لنا حتى تعمل به كوسيلة لكسب العيش وتترك ابنتها عندنا فى مركز الإقامة والابنة لم تتجاوز السنوات الأربع لأن الأم لا تستطيع التكفل بها ولأن زوجها يضرب الابنة التى هى ليست ابنته؟
●●●
أم آية، وهى الأم بطلة القصة هنا، جاءت لمركز الإقامة تأخذ ابنتها زيارة قصيرة لمنزلها، كما يفعل غالبية أهالى الأطفال عندنا حيث يقومون بأخذ أبنائهم لمدة وخصوصا فى الأعياد، وهذه قصة أخرى. كانت تصرخ فى وجه مدير الإقامة اعتراضا على الملابس التى تسلمت بها ابنتها ووصفتها بالرثة. حاول الموظف المسئول شرح انها تأخذ الابنة بملابس جديدة كل مرة ولا تعيدها مع انتهاء الزيارة وإعادة البنت إلى المؤسسة مرة ثانية. احتدت أم آية على الموظف مما جعله يحتد عليها هو الآخر وقررت الأم أخذ الابنة نهائيا وعدم إعادتها للمؤسسة. وفى غمرة انفعالها، انقضت أم آية على ابنتها تنزع عنها الملابس التى لا تعجبها وعندما بدأت آية فى البكاء صفعتها أمها بكل قوتها على وجهها عدة مرات. فزعت البنت وجرت ناحية الموظف ومشرفى الإقامة رافضة الذهاب مع الأم.
عند تأزم الموقف لهذا الحد، جاءتنى مشرفة إقامة فى مكتبى تسرد على الأحداث بسرعة وتطلب المساعدة. وجدت نفسى فى معضلة شديدة: هذه ابنتنا وهذه ابنتنا. هذه تقترف فعلا من اكثر الأفعال المكروهة على نفسى: ضرب وضرب مبرح وبدون سبب لبنت لم تقترف إثما إلا أنها عبرت عن رعبها واعتراضها على سوء المعاملة، والابنة الثانية أعرف عنها سلاطة اللسان والصوت الجهورى ولكن تخفى وراء هذا اللسان وهذا الصوت شخصا فى غاية الطيبة والانكسار. لو كانت هذه الأم تعمل معنا لفصلت من العمل فى الحال ولكنها الأم وأم هى الأخرى فى ظروف الشارع، أى أن آية تعتبر من الجيل الثانى للأطفال فى ظروف الشارع.
●●●
ذهبت إلى حيث أم آية التى كانت بركانا من الغضب وسحبتها من يدها بدون كلمة واحدة. سارت معى إلى المكتب. احتضنتها وأخذت أسألها بهدوء عن سبب هذه المعركة. «يا أبله، الأستاذ محمد بهدلنى وقاللى انه مش حيدينى البنت، ازاى يعنى دى بنتى وهو جايبهالى لابسه لبس مبهدل. هو يعنى علشان احنا غلابة وعلشان انا مش قادرة اقعدها معايا يعمل فيا كدة؟ هو احنا يعنى من الشارع؟» كنت أعلم أن كل الجمل التى تفوهت بها هى حفنة من المغالطات والافتراءات لكنى قلت لها: «لأ انتى وبنتك على عينا وراسنا وانا مش عايزاكى تعيطى». وأخذت أشرح لها سبب انفعاله عليها ومعاناتنا فى الحصول على أموال لشراء ملابس جديدة أو تبرعات ملابس من كل الجهات، ولكن الذى كان يعنينى من كل هذا الموقف ليست الملابس ولكن شىء آخر كلية، فقد تأكد لدى الشعور مرة تلو الأخرى أن هؤلاء «الغلابة» لا يملكون الا شيئا واحدا: عزة أنفسهم، وأن السبب الذى استشاطت منه أم آية هو أنها شعرت، عندما رأت ابنتها بملابس لا تعجبها وعندما احتد عليها محمد، بكل ضعفها وعجزها على ابقاء ابنتها معها لظروفها المعيشية المتردية ولسوء معاملة زوجها للابنة واضطرارها إلى احتمال ذلك لعدم وجود عائل، خصوصا أننى أعلم أن أم آية، ككثيرات مثلها، قد تعرضت لكل أنواع الاغتصاب والانتهاك طوال حياتها حتى إنها قالت لى منذ فترة عندما عرضنا عليها وعلى مجموعة اخرى من البنات العمل فى مشغل: «أنا تعبت يا أبله كتير فى حياتى وعايزة شغلانه سهلة» فوظفناها كعاملة نظافة فى مركز الاستفبال.
أخذت فى تهدئة أم آية حتى عدلت عن فكرة أخذ آية من المؤسسة وقلت لها إن بيتنا مفتوح دائما لها ولابنتها. هل اتخذت موقفا صحيحا عندما تغاضيت عن تطبيق سياسة حماية ابنة من بناتنا حيث كان من المفترض أن أرفض أنا الأخرى تسليم البنت لاعتداء أمها عليها حتى لو لم نمتلك كمنظمة مجتمع مدنى حق سحب الطفل من أحد أبويه فى حال تعرضه للعنف، وفضلت نصرة أمها المعتدية؟ لا أعلم، ولكن مديرة مركز الاستقبال التابع لبناتى قالت لى إن أم آية اعترفت لها بخطئها فى الصراخ فى وجه الموظفين الذين يرعون ابنتها. وإنها شعرت بأنها «بنى ادمة لما الأبلة خدتنى اودتها وحضنتنى!»
●●●
آية عادت من الزيارة للمؤسسة فى اليوم المتفق فيه مع امها وعندما سألتها: «اتبسطى عند أمك يا آيه؟» قالت بمنتهى العفوية: «آه وماما مضربتنيش خالص!»