فلسفة الدستور فى بنيته وأحكامه
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
الثلاثاء 24 سبتمبر 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
المفترض فى لجنة الخمسين القائمة على تعديل الدستور هو أن ترجع فى التقارب بين المجالين السياسى والدينى وهو أهم ما حققه على الإطلاق الإخوان المسلمون وحلفاؤهم فى دستور سنة 2012. ولكن انظر إلى التعديلات التى خرجت من لجنة العشرة. اللجنة لم تعالج هذا التقارب قط، ولجنة الخمسين لم تلتفت إليه وهى توزع مواد مشروع الدستور المعدل على لجانها النوعية الخمس.
فى سنة 2012، وبعد المادة الثانية التى تنص على أن الإسلام دين الدولة وعلى أن مبادىء الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، أدخلت الجمعية التأسيسية مادة ثالثة بشأن شرائع المصريين من المسيحيين واليهود باعتبارها المصدر الرئيسى للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية، ثم مادة رابعة بشأن الأزهر الشريف باعتباره هيئة إسلامية مستقلة جامعة. لجنة العشرة أدخلت تعديلات محمودة على المادتين ولكنها أبقت عليهما. المادة الثالثة تنظم مسألة لم تنشأ أى مشكلة بشأنها من قبل قط. مفروغ منه منذ دخل الإسلام مصر أن الأحوال الشخصية للمصريين المسيحيين واليهود تنظمها شرائعهم! أما المادة الرابعة، فإن المطالع للدستور يتساءل عن مبررها خاصة بعد أن أسقطت لجنة العشرة الدور الاستشارى لهيئة كبار العلماء فى العملية التشريعية التى تمس الشريعة الإسلامية. الحاصل هو أن ثلاثا من المواد الأربع الأولى فى مشروع الدستور المعدل تتعلق بالدين، أى أن المشروع يبقى على تديين الدستور وهو أهم ما أدخله دعاة الإسلام السياسى على الدستور المصرى فى سنة 2012. النص الحالى للتعديلات يكرِس انتصار الإسلام السياسى حتى بعد خروجه من السلطة.
ثم إن هاتين المادتين تردان فى الباب الأول الخاص بمقومات الدولة والمجتمع وفى الفصل الأول منه المتعلق بالمقومات السياسية. هل الأحوال الشخصية للمصريين المسيحيين واليهود من المقومات السياسية للدولة؟ وهل اختصاص الأزهر الشريف بنشر علوم الدين واللغة العربية من بين هذه المقومات؟ إن كان لا بد من فحوى المادة الثالثة، فلتوضع فى الباب الثانى الخاص بالحقوق والحريات ولكن بعد تعديلها لتنطبق على كل المصريين. إن ذكر أى مجموعة من الناس بالإسم هو أول خطوة على طريق التمييز ضدهم وإن كان المقصود غير ذلك. إن كانت هذه المادة ضرورية، وهو الأمر المشكوك فيه تماما، فلتكن صيغتها فى الباب الثانى أن المصدر الرئيسى للتشريعات المنظمة للأحوال الشخصية للمواطنين المصريين، وشئونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية هى مبادىء شرائع كل منهم.
الواقع هو أن هذا الباب برمته فريد فى نوعه، فلا يوجد أى دستور فى أى مكان، بما فى ذلك مشروع الدستور التونسى الذى شاركت فى وضعه أغلبية من حزب حركة النهضة الإسلامى، نصوص عن المجتمع كتلك الواردة فى الفصل الثانى المتعلق «بالمقومات الاجتماعية والأخلاقية». صحيح أن أصل هذا الباب فى الباب الثانى من دستور 1971 الخاص بالمقومات الأساسية للمجتمع وفى الفصل الثانى منه المتعلق بالمقومات الاجتماعية والخلقية، ومن قبل ذلك فى دستور سنة 1956. مثل هذا الباب لا وجود له فى دستور 1923 ولا فى مشروع الدستور الراقى لسنة 1954. كان المأمول فيه بعد ما لحق بالدولة والمجتمع من أمراض فى العقود الأخيرة وبعد ثورة على ما تردت إليه أحوال المصريين امتدت لما يقرب من ثلاث سنوات حتى الآن، كان المأمول فيه أن تعالج عملية تعديل الدستور فى سنة 2013 العيوب الخلقية فى النظام السياسى.
●●●
حكم فريد بدوره فى هذا الباب هو ذلك الوارد فى المادة العاشرة فى دستور سنة 2012 وهو يبدأ بالنص على أن «الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية». هذا الحكم بقى معدلا فى اقتراحات لجنة العشرة، وهو حكم يجد أصله فى دستور سنة 1956 وتطور فى اتجاه متزايد المحافظة من ذلك الحين. فى دستور 1956 ورد الحكم فى المادة الخامسة، والمهم هو أنه توقف عند النص على أن «الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية». أما دستور 1971، فلقد زاد عليه «وتحرص الدولة على الحفاظ على الطابع الأصيل للأسرة المصرية وما يتمثل فيه من قيم وتقاليد، مع تأكيد هذا الطابع وتنميته فى العلاقات داخل المجتمع المصرى». بعبارة أخرى، دستور 1971 لم يكتف بتحديد أساس المجتمع فى الأسرة وتحديد قوامها، بل إنه منح للدولة دورا فى الحفاظ على ما اعتبره طابعا أصيلا للأسرة المصرية. دستور 2012 أضاف إلى ذلك فأعطى للمجتمع نفسه دورا، بالإضافة إلى دور الدولة، فى الحفاظ على الطابع الأصيل المذكور وفى ترسيخ القيم الأخلاقية للأسرة المصرية وحمايتها. تعديل لجنة العشرة أخذ فى اعتباره الاحتجاجات الهائلة لدعاة مدنية الدولة على هذا الحكم المستجد فأسقط من مادته العاشرة دور المجتمع فى الحفاظ والترسيخ والحماية، ولكنه أبقى على دور الدولة فى الحفاظ على الطابع الأصيل للأسرة المصرية وترسيخ قيمها الأخلاقية، أى أنه لم يلغ تماما اتجاه دستور 2012 الأكثر محافظة عن دستور 1971، وهو نفسه دستور محافظ إذا ما قورن بدستور 1956 الذى لم يعترف للدولة بأى حق فى شأن الأسرة. دستور سنة 1923، ومشروع سنة 1954، لا يوجد فيهما أصلا أى ذكر للأسرة ولا للمجتمع. أول ما ينبغى أن تفعله لجنة الخمسين هو مناقشة إن كانت تريد أن تصبغ الدستور المعدَل بطابع محافظ يتصور هباء أنه يمكن تحديد طابع وأخلاق جامدة لأى مجتمع وأن تمنح الدولة حق الحفاظ عليه وعليها. الدستور يصدر عن المجتمع لينشىء النظام السياسى وليمنح الدولة سلطات حتى تدير شئونه، وهو ينظم هذه السلطات حتى لا تفتئت الدولة عليه. فهل يعطى المجتمع للدولة حق تحديد الوجهة التى يتطور إليها وحق التحكم فى إيقاع هذا التطور؟! المسألة تتعلق بفلسفة الدستور.
على لجنة الخمسين أن تتدارس المسافة بين المجالين السياسى والمدنى التى تحفظ للدولة طابعها الحديث. وعلى اللجنة أن تعيد النظر فى العلاقة بين الدولة والمجتمع لكى تتفرغ الدولة للحكم والتنمية والتحديث، وليختص المجتمع بتنظيم شئونه وبضبط إيقاع تطوره بما يتفق وأحكام الدستور والقانون.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة