القاهرة: مدينتى وثورتنا (٣٢)
أهداف سويف
آخر تحديث:
الخميس 24 سبتمبر 2015 - 10:30 ص
بتوقيت القاهرة
الموجة الثانية
شارع مجلس الوزراء: ١٦ إلى ٢٢ ديسمبر ٢٠١١
كان التعدى على عبودى ثم إلقاؤه إلى أصدقائه الضربة الافتتاحية فى الهجوم على اعتصام مجلس الوزراء.
بعد الصلاة فى تلك الجمعة، ١٦ ديسمبر، أطلقوا الرصاص على الشيخ عماد عفت فقتلوه، وكان الشيخ عماد من أكثر الشخصيات المحبوبة فى الميدان، وكان أكاديميا أزهريا ومعلما محبوبا ويشغل منصب أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية.
علاء عبدالهادى، مشروع طبيب، فى سنة خامسة طب عين شمس، كان ينزل إلى المستشفيات الميدانية فى التحرير منذ بدء الثورة، ولما سمع أن القلق بدأ فى شارع البرلمان كتب على صفحته فى الفيس بوك «هانزل أشوف وربنا يستر …». علاء عبدالهادى كان يحاول إنقاذ الشيخ عماد حين قتلوه هو أيضا. أمه، مشغولة عليه، تتصل بهاتفه: «يوم الجمعة اتصلت بيه الساعة سبعة إلا تلت. رنيت أربع مرات لقيته ماردش قلت جايز يكون نايم واللا حاجة.. اتصلت كمان ــ مش عارفة أنا ليه كان عندى إحساس ومصرة إن أنا اتصل ورا بعض ــ اتصلت بيه الساعة سبعة، لقيت واحد تانى اللى بيرد عليا، قلت جايز أنا طلبت نمرة غلط، رحت قافلة وطالبة تانى، لقيته برضه نفس الشخص، باقولله حضرتك مش ده موبايل علاء؟ قاللى مين معايا؟ قلت له أنا والدة علاء، قاللى طب مافيش راجل عندك فى البيت أكلمه؟ أنا ساعتها بقى صرخت قلت علاء ابنى جرى له حاجة..»
استمرت أحداث مجلس الوزراء خمسة أيام. وعلى مدى الأسبوع رأينا الشباب يُسحَبون إلى حالة حرب صغيرة: يُستفَزون بالحركات والشتائم من أسطح المبانى ومن وراء الأسوار، يُقذَفوا بالحجارة والطوب والأثاث وأطقم الصينى ولوحات الزينة وألواح الزجاج وقنابل المولوتوف والشماريخ ــ هذا خلاف الأسلحة التقليدية من خرطوش ومطاطى ورصاص حى وغاز.
ثم رأينا حملات الهجوم على الميدان والشوارع تضرب الشباب بشراسة، ورأينا جرجرة البنات إلى محابس مختلفة، ورأيناهن يخرجن مضروبات ومكهربات، وواحدة منهن محفور فى رأسها حرف الـ«T».
ورأينا حرق ومحاولات حرق المبانى العامة، ومنها المبانى ذات المعنى التراثى مثل المجمع العلمى، يحاول الشباب إنقاذ الكتب منه فينزل عليهم وابل من الطوب. ويمسك الشباب أيضا بمجموعة من الـرجال معهم زجاجات مولوتوف ومتجهين لمهاجمة المتحف المصرى.
ثم جاء المشهد الذى التقطته الكاميرات ولف العالم فى لمح البصر: الشابة التى تُفصَل عن الشاب الصحفى الذى تتحدث معه، ويُضرب هو وتسحل هى وتُعَرَى وفى لحظة نرى قدما تنزل بثقل لابِسِها على صدرها، وسيدة كبيرة السن تحاول الذود عن الشابة فتُضرب.
لم يكن أحد وقتها يتصور أن شابا مصريا يمكنه أن يضرب شابة بجزمته فى صدرها، أن يُلَطِش لسيدة فى عمر أمه ويركلها. لكنهم فعلوا هذا. فعلوا هذا فى التحرير على مدى أيام.
عرفنا ساعتها أننا كنا على حق حين شعرنا أن النظام يعبث ــ ليس فقط باقتصادنا، وأمننا، وصحتنا، ونيلنا، وأرضنا، بل يفسد فى نفوسنا وعقولنا وقلوبنا. وكانت استعادة النفس هى أجمل تحولاتنا فى الميدان فى يناير وفبراير.
وفى السابعة من صباح الإثنين ١٩ ديسمبر، فى ميدان التحرير، كان خطٌ، خيطٌ، نهيرٌ من الدماء: خمسون مترا ركضها رفاق اللحظة وهم يحملون الشاب الجريح، محمد مصطفى، طالب هندسة عين شمس المضروب بالرصاص … خطٌ، خيطٌ، نهيرٌ من الدماء، أحاطها الشباب على طولها بقطع الطوب والحجر لترسم لنا طريقا، ثم صوَروه … جاء الفعل صادقا بسيطا مهيبا فى رمزيته، واسعا فى رسالته: الدم غالٍ، كل نقطة فيه لها ثمن، والدم يرسم الطريق.
يأخذون كل من سناء ومنى إلى داخل البرلمان ويضربوهن. هناك شريط فيديو نرى فيه طبيبة شابة، الدكتورة فريدة، وهم يقتنصونها. أشاهد الفيديو مرات، وفى كل مرة أرى صورة ظبى أو غزال يقع إلى الأرض فى تصوير بطىء. غادة كمال. عزة هلال. كل واحدة منهن، حال إطلاق سراحها، تقدم شهادتها على شاشات التليفزيون ــ على القنوات الخاصة التى أصبحت ــ بشكل ما ــ منابر الثورة. وبعد أيام قليلة نسمع ببطلة جديدة، هند نافع، الطالبة بجامعة بنها.
فى ١٩ ديسمبر يقيم المجلس العسكرى مؤتمرا صحفيا مطولا ينفى فيه كل الاتهامات الموجهة للقوات المسلحة، ويعيد فيه ويكرر الادعاء بأن هناك «طرف ثالث» أو «أيدى خفية» تعمل بشكل منظم لتشق الصف وتدمر الدولة.
وفى نفس اليوم يقيم عدد من المجموعات والتحالفات الثورية مؤتمرا صحفيا بديلا يقدمون فيه تسجيلات توثيقية وشهادات حية. القاعة مشحونة بالحزن والغضب. ناشطة شابة ترتعد غضبا وقهرا وهى تتحدث وترفع القماشة المخضبة بالدم التى حاولت بها وقف النزيف من جراح محمد مصطفى. ومن هذا المؤتمر تولد حملة شعبية. شباب يصورون الأحداث ويرفعونها على النيت، ونشطاء فى مختلف الأماكن يُحَمِلونها ويعرضونها. تجربة رائعة وتمرين رائع على توظيف «المشاعات الثقافية». هذه الحملة لا يمتلكها أحد، ولا يديرها أحد. سيسمع بها أفراد، فيكونون مجموعة، يُحَمِلون الأفلام ويعرضونها. العروض تأتى مفاجئة ولا يتم الإعلان عنها. يعرض الشباب الأفلام فى مناطق مزدحمة وعلى جدران المبانى الحكومية فى مدن كثيرة بطول البلاد وعرضها. أحيانا يتشاجر معهم المارة، أو يأتى الأمن ليضربهم. هذه الحملة ستكبر وسيكون لها مصداقية عالية جدا، وستلعب دورا أساسيا فى التعجيل بالمسار الذى حسبناه طريقنا إلى الديمقراطية.
يوم الثلاثاء ٢٠ ديسمبر تقوم آلاف النساء بمسيرة فى وسط البلد. فى الشهور الأولى من الثورة رفضنا إبراز «قضايا المرأة»، وأصرت المنظمات النسوية على أن كفاحنا هو لخلق مجتمع لا يميز بين الناس على أى أساس من الأسس ــ بما فى ذلك الجنس. الآن، وفى مواجهة مشاهد ضرب النساء، وسحلهن، وتعريتهن، وفى مواجهة عودة التحرش الجماعى فى الشوارع، وأنباء عن «كشوفات عذرية» تُخضَع لها المحتجزات، الآن نقوم بمسيرة نسائية، ورسالتنا المتحدية للسلطات واضحة جلية: «المشير فين؟ الستات أهُم»، «الإخوان فين؟ الستات أهُم». الرجال يحاولون أن يدعمونا؛ يكونون كردونا متشابك الأذرع حولنا فتتحرك المسيرة داخل فقاعة واقية من الرجال. وفى لحظة، تجيش مشاعر الرجال فيبدأوا هتافا تلقائيا فى لوم أنفسهم: «الرجالة فين؟ الستات أهُم!» يرددون الهتاف عددا من المرات ثم يأتى هدير النساء، يجيبهم، يطمئنهم: «اشهد يا محمد محمود، رجالتنا كانوا أسود». مسيرة خطيرة فى معانيها المركبة؛ هى إعلان عن القوة النسائية، لكنها تسعى أيضا إلى تجنيد وتوريط الرجال وليس إلى استبعادهم. نهتف «إضربني! عريني! دم أخويا هيغطيني!» حقيقة لا تغيب عنا أبدا: الغالبية العظمى من الذين قُتِلوا هم من الذكور. مثل محمد مصطفى «كاريكا»، مثل علاء عبدالهادى، مثل أحمد سرور، مثل مينا دانيال، مثل، ومثل، ومثل..