ميادين فى حياتى

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 24 سبتمبر 2024 - 10:21 م بتوقيت القاهرة

خلفت تجاربى مع الميادين أحاسيس وعلاقات تجمع بين الأبهة والفخامة والعظمة والزعامة والنظافة والقوة والوطنية والجيوش الجرارة والخطب الرنانة والفراغ المهيب والازدحام المخيف والتاريخ الذى لا يغيب والأضواء الكاشفة والفن الجميل.
• • •
كنت دون العاشرة عندما دخلت أولى تجاربى مع الميادين وكانت مع ميدان عابدين وسط القاهرة. كنا نذهب إلى الميدان الذى يطل عليه المقر الرسمى لجلالة ملك مصر مرتين كل عام لننشد أناشيد الولاء للملك والوطن، مرة احتفالا بعيد ميلاد جلالته يوم 11 فبراير ومرة أخرى احتفالا بعيد الجلوس يوم 6 مايو. كنا آلاف التلاميذ صبيانا وبنات نصطف فى منظر مبهر فى ملابس رياضة ناصعة البياض نرسم بأجسادنا الصغيرة لوحات فنية وبأصواتنا «المسرسعة» نغنى الأناشيد الحماسية.
• • •
كبرت على سن الأناشيد ولم تتوقف علاقتى بميدان عابدين. كان لا بد لنا، والدى وأنا المطبق على يده، أن نقطعه صباح كل يوم جمعة فى طريقنا إلى قاهرة المعز لزيارة الأقارب ولصلاة الجمعة.
• • •
لم أشأ وأنا فى الهند أن يفوتنى الاحتفال بيوم الجمهورية، وهو اليوم الذى تحتفل فيه البلاد بذكرى تفعيل دستور الاستقلال. يجرى الاحتفال فى شارع بعرض ما تصورته دائما عرض أى ميدان، ولكنه فى الطول اختلف فصار فى واقع الأمر شارعا طويلا وعريضا. إنه ميدان أو شارع راجباث الموصل إلى أهم قصور الدولة حيث البرلمان وقصر الرئاسة وقصور الحكومة. أظن أننى لم أشاهد روعة فى تناسق الألوان وبهجة الصور فى الاحتفال بعيد وطنى مثلما شاهدت فى هذا الميدان فى يوم 26 من يناير عام (1958). شاهدت جيشا عمره لا يزيد على ثمانى سنوات مزهوا بالمناسبة، ضباطه وجنوده يركبون الخيل والجمال فى أناقة وجمال والناس على ناحيتى الميدان يهللون بأعلام دولتهم الجديدة وولايات الهند العديدة وقبائل وطوائف يصعب على وافد جديد، أو قديم، أن يلم بعددها.
• • •
الميادين فى روما رموز حية لدولة، بل ولأكثر وأكبر من دولة. أذكر أننى طلبت من نبيل العربى، صديقى وزميل دفعتى فى وزارة الخارجية وقد كلف نفسه بمهمة مرافقتى فى سلسلة رحلات سياحية نجوب فيها أرجاء العاصمة، طلبت منه أن نبدأ بالميدان الذى وقف يخطب من إحدى الشرف المطلة عليه بنيتو موسولينى الزعيم الفاشى. يومها، وأقصد يوم السياحة فى التاريخ مع نبيل، عرفت أن الميدان الذى أعنيه والمرسوم فى مخيلتى اسمه ميدان فينيسيا، ولكن سرعان ما جرى تنبيهى إلى أن ميادين أخرى يعتز بها أهل روما، وإيطاليا بشكل عام، بأكثر من اعتزازهم بميدان فينيسيا، وهو الاعتزاز الذى تراجعت مرتبته مع هزيمة الفاشية وإن بقى فاعلا فى نشاط حزب سياسى يمثل الفاشية. قيل وهو صحيح أن الفاشية بكل صورها «بسبع أرواح» وبالفعل عاد الحزب هذه الأيام بفاشية مجددة أو منقحة إلى الحكم بعد مرور حوالى ثمانين عاما على اندحار الفاشية فى الحرب العالمية وعودة الديمقراطية النيابية وهيمنتها على الحياة السياسية.
• • •
عرفت أيضا أن الميدان الأهم فى روما وربما من أكبرها اتساعا وقيمة هو ميدان القديس بطرس الذى يتوسط مدينة الفاتيكان. هنا من الميدان ووسط حشود الحجاج والسياح حضرت أكثر من مرة مناسبة إلقاء البابا لخطاب. رأيته يطل من شباكه الشهير وقد تدلت منه سجادة مباركة، ورأيت الحشود وهى تتفاعل بمشاعر جياشة مع هذه الإطلالة أو ذاك الخطاب. كثيرا ما خطرت على بالى وقتذاك فكرة البحث المعمق فى أصل ونشأة «الميدان» ومكانته فى علم هندسة المدن، وعلاقته بقضية الإيمان الدينى والأيديولوجى وحاجة الناس للتعبير عن مشاعرها وقوة إيمانها، وفى الوقت نفسه حاجة الحكام والزعماء إلى حشد هذا التعبير بين الحين والآخر. لا فرق وجدت بين حاجة نظام ديمقراطى وحاجة نظام غير ديمقراطى، كلاهما لا يستغنى عن الميدان.
• • •
الحديث عن الميادين والفاشية يجرنا إلى الأرجنتين حيث كان يوجد فى زمنى «أوسع شارع فى العالم» وأحب امرأة حاكمة إلى قلبى. بالشارع أقصد طريق التاسع من يوليو نسبة إلى عيد الاستقلال المتقاطع مع شارع الأول من مايو عند المسلة الشهيرة. لا مبالغة أرجنتينية عند التفاخر بعرض شارع التاسع من يوليو فهو يتسع كما يقال لعشرين حارة. وبالمرأة أقصد فتاة الريف الطموحة التى نزلت ذات يوم من قطار فى محطة الريتيرو التى سكنت فى مواجهتها لثلاثة أعوام. وصلت الفتاة إيفا دوارتى من مدينتها الريفية لتبحث عن عمل كممثلة إذاعة، ومن خلال عملها وهى فى أوائل العشرينيات من عمرها تعرفت على الكولونيل خوان بيرون وكان وزيرا للعمل فى حكومة عسكرية.
هاما ببعضهما هياما فاقت حكاياته الأسطورة. تزوجا وانطلقت بكل ما أوتيت من جاذبية وضعف وماضٍ بائس لتكسب قلوب وعقول الطبقات الفقيرة والعاملة فى جميع أنحاء الأرجنتين. حملتها الجماهير، وبخاصة جماهير النساء، إلى مرتبة القديسين بعد أن أسست تقاليد اجتماعية ونقابية ما تزال بعد أكثر من سبعين سنة مرعية بالحب والكره معا. لم تحتل إيفا، أو إيفيتا كما أحب الفقراء تسميتها، منصبا وزاريا، ولكنها تدخلت بطموحها وذكائها وحب زوجها لها فأرست قواعد حكم وعدم استقرار ما تزال فاعلة.
زرت الساحة التى تؤدى إلى البيت الوردى، مقر رئاسة الجمهورية، البيت الذى كانت تطل من إحدى شرفاته على الوفود والمتظاهرين لتخطب فيهم. كنت هناك بعد مرور سنوات على رحيلها المبكر بسبب السرطان. رحلت وهى فى الثانية والثلاثين بعد زواج دام ست سنوات مخلفة أساطير وروايات منها رواية اختفاء جثمانها وإشاعة إلقائه فى نهر لا بلاتا ولم يتحقق السلم الأهلى فى الأرجنتين إلا بعد عقود عديدة عندما قام الجيش بإعادته.
الميادين عديدة بعدد المدن القديم منها والحديث. لكل ميدان حكاية يجب أن تروى، وفى بلدى ميدان حكايته لم ترو بعد بكامل تفاصيلها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved