معجزة الجامعات الحكومية
محمد علاء عبد المنعم
آخر تحديث:
الثلاثاء 24 سبتمبر 2024 - 7:50 م
بتوقيت القاهرة
الجامعات الحكومية المصرية «تغزل برجل حمار». لا أجد تعبيرًا خيرًا من هذا لوصف ما حققته الجامعات الحكومية المصرية من إنجازات علمية لا يمكن تصور تحقيقها بالموارد المتاحة لديها.
تم إدراج خمس جامعات مصرية ضمن أفضل ألف جامعة على مستوى العالم فى تصنيف ويبومتريكس Webometrics ranking، وجاءت جامعة القاهرة على رأس الجامعات المصرية فى التقرير بترتيب 529 عالميًا، تليها جامعات الإسكندرية والمستقبل والمنصورة وعين شمس.
وفى تصنيف QS جاءت جامعة القاهرة ضمن أفضل 500 جامعة فى العالم، واحتلت بعض التخصصات بها أماكن مرموقة فى الترتيب العالمى، ومنها العلوم الطبية والحاسبات، كما احتلت الجامعة المركز الثالث إفريقيًا والأول عربيًا. وتلاها فى هذا التصنيف الجامعة الأمريكية بالقاهرة ثم جامعتا عين شمس والإسكندرية.
نفس النمط تكرر فى تصنيفات أخرى هامة مثل US News and Media Report وتصنيف شنجهاى الصينى.
ومؤخرًا أعلنت جامعة ستانفورد قائمة أفضل 2% من العلماء حول العالم من حيث التأثير العلمى لأبحاثهم، حيث ساهمت جامعة القاهرة بالعدد الأكبر من مصر (76 أستاذًا بالجامعة وصلوا إلى هذه القائمة)، يليها جامعات عين شمس (58 أستاذًا)، ثم المنصورة والزقازيق.
• • •
بالأرقام والسياسات ورمزية المواقف الرسمية، هذه الإنجازات استثنائية.
منذ صدور قرار مجلس الوزراء بتخفيض وترشيد الإنفاق الحكومى للجهات الداخلة فى الموازنة العامة للدولة سنة 2021، زاد حرمان الجامعات الحكومية وعلمائها من مصادر التمويل اللازمة لقيامهم بأدوارهم العلمية.
توقفت الجامعات عن الإنفاق على مشاركة أعضاء هيئات التدريس فى مؤتمرات دولية، وكان فى السابق بإمكان الجامعة تحمل تكاليف السفر للأساتذة الذين نشروا أبحاثهم فى دوريات مرموقة فى العام السابق.
المشاركات فى مؤتمرات دولية هى أحد الشرايين الأساسية لربط الباحثين فى مختلف المجالات بالتقدم الحادث حول العالم فى مجالات تخصصهم.
كما توقفت الجامعات الحكومية عن المشاركة فى تمويل الأبحاث العلمية، والأصل أن تحذو الكليات حذو الجامعة التابعة لها، حتى وإن توفرت لديها الموارد.
الجانب الإيجابى هنا هو تشجيع أعضاء هيئات التدريس على البحث عن مصادر تمويل خارجية. وتشجع وزارة التعليم العالى والبحث العلمى هذا التوجه، وتقوم جهات على رأسها هيئة تمويل العلوم والتكنولوجيا والابتكار بدعمه. وحتى هذا النوع من التمويل يواجه فى بعض الأحيان عقبات إدارية ليس هذا مجال مناقشتها.
• • •
لا شك أن الحكومة وجهت استثمارات ضخمة للتعليم العالى، ولإنشاء جامعات خاصة وأهلية جديدة، وهو اتجاه فى مجمله محمود، فكل زيادة فى فرص التعليم مرحب بها، مع الأخذ فى الاعتبار أهمية دراسة كيفية توزيع الاستثمارات الحكومية وتحديد أهداف واضحة للتوسع فى الجامعات الخاصة والأهلية، وضمان الاستقلال الأكاديمى والتمويل اللازمين لتشجيع الإسهام البحثى للجامعات الجديدة، فالجامعات مؤسسات بحثية وتعليمية، والدور الرائد للجامعات المصرية أساسه تاريخيًا قدرتها على المساهمة فى العلم والتنوير والتأثير المحلى والإقليمى.
ومن الخطأ النظر للجامعات باعتبارها مؤسسات يقتصر دورها على منح شهادات كما لو كانت امتدادًا للتعليم المدرسى، تمنح درجات بكالوريوس فى تخصصات بعضها كلاسيكى وربما لا تحتاجه سوق العمل، مثل طب الأسنان، وبعضها صار يطلق عليه تخصصات بينية، وهو بالمناسبة ليس شيئًا جديدًا، مثل تخصص الـbusiness informatics الذى يجمع بين إدارة الأعمال والابتكار وعلوم البيانات والحاسبات، وهى تخصصات مفيدة، ولا أعرف إن تمت دراسة مدى احتياج السوق إليها.
• • •
لفت نظرى مشاركة رئيس الوزراء وعدد لا بأس به من الوزراء فى افتتاح جامعة خاصة جديدة. هذا المستوى الرفيع من التمثيل الرسمى يطرح تساؤلات حول نموذج إنشاء مثل هذه الجامعات والمأمول منها.
النموذج الأساسى هو مشاركة الدولة بالأرض، والقطاع الخاص بالبناء وإقامة شراكات مع جامعات دولية.
ومن باب الفضول، بحثت عن ترتيب الجامعة الأمريكية التى دخلت معها الجامعة المصرية الجديدة فى شراكة. وجدت ترتيبها الدولى 698، وهو لا يضعها ضمن أفضل 500 جامعة على مستوى العالم مثل جامعة القاهرة، لكنه ترتيب جيد فى جميع الأحوال، مع أهمية الإشارة إلى أن هذه الشراكة لا تعنى قبول الخريجين للعمل فى الولايات المتحدة دون إجراء دراسات إضافية ومعادلة شهاداتهم.
ما أثار فزعى هو نتائج التنسيق للقبول فى هذه الجامعة، مثلاً الحد الأدنى لدخول كلية الطب البشرى 79%، وطب الأسنان 77%. والحدود الدنيا فى الجامعات الأهلية أقل من هذا، وهو ما يأتى فى إطار المنافسة بين الجامعات الخاصة والأهلية على الطلاب.
أعرف مشكلات التعليم قبل الجامعى فى مصر، لكن نظام الثانوية العامة وما يعادلها لا يزال أداة فرز معقولة لتمييز قدرات الطلاب، وأخشى أن تتضرر المهن الطبية وغيرها إن تساهلنا فى معايير القبول بهذه الجامعات.
أرى أملاً فى بعض الجامعات الخاصة والأهلية من حيث إمكانياتها العلمية والبحثية. وتلفت النظر جامعات مثل الجامعة المصرية ــ اليابانية للعلوم والتكنولوجيا، وهى جامعة ذات طبيعة خاصة (أى أنها ليست خاصة ولا أهلية)، ولديها قدرة على اجتذاب كفاءات علمية ووضع نظام لتقييم أداء أعضاء هيئات التدريس على أساس الإنتاج العلمى والقدرة على توفير تمويل لأبحاثهم.
أتمنى انتشار هذا النموذج فى الجامعات الخاصة والأهلية الجديدة، آملاً أن تتخطى حاجز التركيز على الأرباح على حساب العمليتين التعليمية والبحثية، حتى لا تتحول إلى مشروعات استثمار عقارى تتخللها شراكات مع جامعات أجنبية بعضها جيد والبعض الآخر متوسط المستوى، وهو ما يتطلب وضع منظومة للرقابة والتقييم والاعتماد بشكل دورى وشفاف، تشارك فيه الجهات الرسمية وعلى رأسها الهيئة القومية لضمان الجودة والاعتماد، وهو الدور الذى تقوم به الهيئة حاليًا، إلى جانب تعزيز دور النقابات خاصة نقابتى الأطباء والمهندسين، والصحافة العلمية والاستقصائية، ومؤسسات المجتمع المدنى ومنها مراكز الفكر والأبحاث.
• • •
وتبقى الجامعات الحكومية مصدرًا هامًا لتلبية احتياجات الجامعات الخاصة والأهلية من أعضاء هيئات التدريس، وبإمكان أعضاء هيئات التدريس فى الجامعات الحكومية الحصول على إجازة مهمة قومية للتدريس بالجامعات الأهلية المنبثقة عن جامعاتهم الحكومية.
أخشى أن نظام العقود المؤقتة والأعباء التدريسية المبالغة التى يتحملها أساتذة الجامعات فى مسعاهم للحاق بركب التضخم ستؤثر سلبًا على إنتاجهم العلمى، ومع هذا التوجه قد نجد انتشارًا لجامعات جديدة دون أبحاث، وتدريس دون تعليم وتنمية، وينتهى الأمر بتركيز الاهتمام على منح شهادات دون عائد يساوى ما تم إنفاقه.
• • •
ختامًا، أتوجه بتحية وتقدير لعلماء مصر الذين ثابروا وجاهدوا لتحظى الجامعات المصرية بمكانتها المستحقة بين جامعات العالم، فى مواجهة نقص متزايد فى الموارد وإشارات إلى تراجع الاهتمام الرسمى بالجامعات الحكومية.
بهؤلاء العلماء والإدارات المخلصة التى عاونتهم، استطاعت جامعاتنا أن تبقى منارات للعلم والتنوير، ومصدرًا رئيسيًا لقوة مصر الناعمة وقدرتها على التأثير فى محيطها، وهى نتائج استثنائية فى إطار البيئة التى يعملون بها.
عضو هيئة التدريس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة