لماذا يعجز لبنان عن الخروج من المحنة؟
محمد السماك
آخر تحديث:
الأحد 24 أكتوبر 2010 - 12:54 م
بتوقيت القاهرة
عندما رسم الدبلوماسيان البريطانى مارك سايكس والفرنسى جورج بيكو الخريطة السياسية للشرق الأوسط فى عام 1916، كانت المنطقة كلها جسما واحدا، وكان تقسيمها إلى كيانات سياسية عملية طبوغرافية ترسم على الورق، فيكبر هذا الجزء أو يصغر وفقا لمنطق المساومة وحتى لسماكة قلم الرصاص الذى يستخدم فى عملية الرسم. يبدو الآن أن خريطة سايكس بيكو قد استنفدت أغراضها، وأن القوى المهيمنة على النظام العالمى الجديد بصدد إعادة النظر فى هذه الخريطة، وفقا لحسابات جديدة يفرضها منطق جديد فى المساومة السياسية.
فالخريطة التى يجرى العمل على إعدادها لا يمكن أن ترسم بالسهولة التى جرت فى عام 1916. هذه المرة تحتم عملية الرسم والتخطيط إعادة توزيع السكان وفقا لانتماءاتهم العرقية أو الدينية أو حتى المذهبية. وما يجرى فى العراق شمالا ووسطا وجنوبا، وما يجرى فى السودان بين الشمال والجنوب، يشكل أول ممارسة على أرض الواقع لهذه العملية.
ولأن ملف الشرق الأوسط الجديد مفتوح على دفتيه من باكستان حتى المغرب، فإن من السذاجة الاعتقاد بأن الملف اللبنانى من النهر البارد شمالا حتى الناقورة جنوبا قد أغلق. تحرّك هذا الملف عوامل عديدة منها الحاجة إلى تقرير مصير اللاجئين الفلسطينيين (نحو 350 ألف نسمة) وأكثريتهم الساحقة من مهاجرى 1948، أى من عمق إسرائيل اليوم. لقد أعلنت إسرائيل مرارا وعلى لسان مختلف المسئولين فيها أنها لن تقبل بعودة أى منهم، ولا حتى إلى قطاع غزة أو إلى الضفة الغربية. ويشكل هذا الموقف تعطيلا لقرار مجلس الأمن الدولى 194 الذى ينص على حق العودة. ويشكل بالتالى دعوة لتوطينهم، حيث هم كشرط مسبق لأى تسوية سياسية. ومنها أيضا ثروة لبنان المائية والطمع الإسرائيلى بها.
إن عرقلة استثمار مياه لبنان ترتبط بشكل مباشر بالتطلعات الإسرائيلية إلى هذه المياه فى إطار أى تسوية؛ على أن أهم هذه العوامل على الإطلاق يتمثل فى أمرين أساسيين: الأمر الأول هو أن الوحدة الوطنية فى لبنان لا تبدو مستعصية بما فيه الكفاية على محاولات النيل منها رغم مرور عقد من الزمن على إقرار وثيقة الوفاق الوطنى التى صيغت فى مؤتمر الطائف 1989 واتفاق الدوحة وطاولة الحوار الوطنى وحكومة الوحدة الوطنية. بل إنها تبدو هشّة بصورة خاصة بين أبناء الجيل الجديد الذين فتحوا عيونهم على الحرب وعاشوا طفولتهم ومراهقتهم بين متاريسها، ونهلوا من ثقافتها حذرا من الآخر وعدم ثقة به. ومن المؤسف انه لم يجر عمل ترميمى لشخصية هذا الجيل الذى يقف اليوم على عتبة الإمساك بقرار المستقبل، بكيفية تحرّره من رواسب الحرب تربويا وثقافيا. بل إن قوى حزبية وعقائدية استسهلت عملية استقطابهم من جديد.
الأمر الثانى هو انه على الرغم من نجاح لبنان فى إعادة بناء مؤسساته الدستورية فإن الطعنات تتوالى على هذه المؤسسات من كل حدب وصوب، ويشمل ذلك المؤسسات السياسية والأمنية والاقتصادية على حد سواء، ثم إن الممارسة اليومية للسيادة لا توحى لأصحاب مشروع الشرق الأوسط الجديد على الأقل، أن اللبنانيين انتقلوا فعلا من فىء الطائفة إلى حضن الوطن. وأنهم لم يعودوا بحاجة، لمعالجة اختلافاتهم السياسية، إلى حكم أو إلى وسيط خير من وراء الحدود يحذر وينصح ويقترح ويوفّق.. ويشكل بالتالى صمام الأمان لاستمرار الدولة. وتشكل مجموعة الدول من إيران والسعودية وسورية وقطر وكذلك فرنسا والولايات المتحدة «كونسورتيوم» طبى سياسى مستنفر لمعالجة الاشتراكات المرضية السياسية التى تعصف بلبنان من وقت لآخر.
أوحى هذا السلوك لأهل الحل والعقد فى الشرق الأوسط وهو شعور ليس صحيحا بالضرورة انه إذا تُرك رجال السياسة فى لبنان وشأنهم، فإنهم قد يفجرون أزمة جديدة من شأنها أن تجرّ لبنان إلى فتنة جديدة، والفتنة الجديدة التى يشيرون إليها ويتخوفون منها هى الفتنة المذهبية هذه المرة؛ وإذا كان الجيل الحالى من السياسيين اللبنانيين قد اكتوى بنار الفتن الطائفية والمذهبية المختلفة والمتعددة (1990-1975) مما يشكل عامل ضبط لا يشجع على ارتكاب المعصية مرة ثانية، فإن بذور عصبية الجهل المغروسة فى الثقافة العامة لاتزال جاهزة ومستنفرة، ولاتزال بالتالى، قادرة على جرّ الجيل الجديد إلى تجاوز الخطوط الحمراء التى تحددها مقتضيات الوفاق الوطنى.
وتكشف تصريحات عدد من القيادات الحزبية والسياسية ان هذا الخطر هو قاب قوسين أو أدنى! لقد حُرم أبناء هذا الجيل من درسين أساسيين كانا ضروريين لانتزاع بذور العصبية من النفوس وبالتالى لوضع لبنان على الطريق الصحيح نحو إعادة بناء ذاته اجتماعيا وسياسيا وثقافيا على حدّ سواء. الدرس الأول هو محاسبة المسئولين عن الفتنة الكبرى. ولكن الذى حدث هو انه بدلا من المحاسبة، أغدقت على هؤلاء المسئولين مناصب التكريم السياسى والمعنوى استرضاء وتقديرا. الدرس الثانى هو ممارسة المسئولين عن الفتنة لفضيلة النقد الذاتى؛ واعتذارهم للناس عما تسببوا لهم به من ويلات ومصائب، وبالتالى الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه وتلاوة فعل الندامة.
ولكن بدلا من ذلك فإن الدولة اللبنانية أعادت تكييف ذاتها على قاعدة توحى وكأن أيا من هؤلاء لم يكن على خطأ، وان المسئولية تقع على من هم خارج الحدود وعلى الظروف الإقليمية المعقدة التى جعلت من لبنان مسرحا لحروب الآخرين ولتصفية حساباتهم!
انبثقت عن هذا الواقع نظرية «الانتظار أمام مفترق الأحداث»، لعل الظرف الإقليمى يصبح غدا أو بعد غد أكثر ملاءمة بحيث يسمح بتحقيق ما لم يتحقق بالأمس. إن رهان البعض على متغيرات إقليمية، (تسوية فلسطينية إسرائيلية، أو تسوية أمريكية إيرانية)، لايزال رغم كل ما حدث يهيمن على جوانب من فكر سياسى مهووس بأمل الانتظار، متشكك فى القدرة على الوفاق الذاتى. وهو فكر محدود الأفق يتعامل مع الوفاق وكأنه مجرد تسوية مرحلية تقرر متغيرات إقليمية متوقعة دائما ولكنها لا تأتى أبدا.
ليس هذا التشخيص لحالة الوهن الوطنى التى يعانى منها لبنان مجهولا من أصحاب مشروع الشرق الأوسط الجديد. فقد نقل إلىّ دبلوماسى من دولة أوروبية كبيرة مدى تحسس هؤلاء لهذه الحالة معترفا بأن تقرير مصير لبنان يؤرّق المجموعة الدولية المعنية بتحقيق تسوية سياسية شاملة فى الشرق الأوسط.
وقد حدد لى هذا الدبلوماسى مصادر الأرق بأمرين: الأمر الأول هو أن لبنان لا يبدو انه اقنع نفسه بعد، وهو بالتالى لم يقنع الآخرين، بأنه تعلم ما يكفى من الدروس والعبر التى تمكنه من تجاوز محنة الانقسام الداخلى. كذلك فإن لبنان لا يبدو قد نجح فى ترجمة شعار العيش المشترك ممارسة ثقافية وتربوية واجتماعية صادقة وأصيلة. الأمر الثانى هو أن القوى السياسية المحلية فى لبنان لم تقنع بسلوكها المجموعة الدولية بأنها لم تعد تستقوى على بعضها بقوى خارجية.
وأن احترام سيادة الدولة يشكل بالفعل السقف الذى تجرى تحته اللعبة السياسية، فى وجوهها المختلفة تحالفا أو تصارعا. وأسرّ لى محدثى أن هذين الأمرين يصنعان وضعا يربك المجموعة الدولية.
وفى نظره فإنه إذا بقى لبنان على ما هو عليه الآن، بؤرة مضطربة ومستضعفة، فإنه يفتح شهية الآخرين للهيمنة عليه ومحاولة احتوائه. ومن شأن هذا الأمر أن يفتح الأبواب أمام الصراعات الإقليمية.
ولأن لبنان لم يوحِ للمجموعة الدولية بأنه قادر على تجاوز ما هو عليه الآن من ضعف واستضعاف وبالتالى فإنه ليس لقمة سائغة يسهل قضمها وهضمها، فإنه قد يجد نفسه مطروحا على طاولة التسوية فى كل مرة ينشب فيها صراع بين قوى إقليمية بامتداداتها الدولية.
فلبنان فى واقعه الحالى يبدو «الرجل المريض» فى الشرق الأوسط، أو لعله يبدو «كالقصعة» التى تتزاحم عليها الذئاب فى زمن المجاعة!