ثورة.. ودولة.. ونظام

مصطفى حجازى
مصطفى حجازى

آخر تحديث: الأربعاء 24 أكتوبر 2012 - 8:55 ص بتوقيت القاهرة

مشاهد تابعناها على نحو أكثر من عام ونصف العام من عمر ثورة ٢٥ يناير.. تقول إن ماضيا يتحرش بمستقبل.. بدأت «بنظام حكم» يتحرش بالثورة باسم الدولة.. ومالبثت أن تحولت إلى «تنظيم حكم» يتحرش بالدولة باسم الثورة.. وفى الحالة الأولى كانت «الدولة الحقيقية» من الفعل براء والحالة الثانية تبقى «الثورة الحقيقة» من الفعل براء !

 

«الثورة» فعل أخلاقى.. قيمى.. جماعى تقوم به كتلة حرجة واسعة من كل أطياف مواطنى وطن ما.. من أجل هدم «نظام» فاسد يحكم.. ولكن بالأساس من أجل بناء «الدولة» وإصلاح مؤسساتها إصلاحا جذريا..

 

الثورة إذا.. هى الإصلاح الهيكلى الجذرى أو «الراديكالى» ..ويكون ذلك بنمطين لا ثالث لهما.. أولهما الهدم ثم البناء.. وثانيهما الإحلال الإجرائى العميق والمتسارع.. لكل مؤسسات الدولة موطن الثورة..

 

ولكن يبقى شرطا أساسيا لكى يصبح الفعل «ثوريا» أى كان نوعه أن يظل هدفه الأوحد بناء «الدولة» والحفاظ على «معناها».. وكذلك يبقى لكل نمط ثورى محدداته التى لا يكتسب شرعيته الا من خلالها.. ويبقى مصدر الشرعية له واحد وهو عموم أبناء الوطن الواحد بتوافق كتلتهم الحرجة للنمط الهدمى أو الإحلالى..

 

فأما شرعية ثورة «الهدم ثم البناء» تقتضى أن يكون التوافق أو الإجماع بشأنه توافقا أو إجماعا مجتمعى وليس لقوى سياسية تمثل تيارات مؤدلجة..

 

وأما اذا حدث تململ مجتمعى بشأن تعريف فساد المؤسسة الواجب إصلاحها أو عدم إقرار لنمط الهدم الثورى.. صار اللجوء إلى هدم المؤسسة المستهدفة ــ حتى وإن صح فى تقديره ــ فعلا وصائيا على المجتمع.. يكون فساد الوصاية فيه أعظم من أى إصلاح مرجو..

 

وذلك لأن رأس المكتسبات التى تأتى بها أى ثورة لمجتمعها هى رفع الوصاية عنه من أى أحد.. الا لمنظومة قيمه التى يرتضيها لنفسه..

 

فمثال على ذلك أنه رغم نبل أهداف ثورة يوليو ١٩٥٢.. إلا أن الفعل الوصائى الذى مارسه الضباط الأحرار على المجتمع، وإن كان فى دروب رفع المظالم واستعادة الحقوق إلا أنه أسَّس لمظالم أكبر وضيّع حقوقا أكثر فى معنى الدولة.

 

وفى ثورة المصريين فى يناير ٢٠١١ حين قيل ‹الشعب يريد إسقاط النظام› ــ كان الذى أعطى شرعية تحقيق هذا الهدف الثورى بمسار هدم رأس السلطة التنفيذية (مؤسسة الرئاسة ذاتها) ــ هو التوافق المجتمعى ليس فقط المتبدى فى مشاهد ميادين التحرير ولكن قبله الظهير المجتمعى الذى بارك فعل التحرير. ولو رفع هذا الظهير مباركته عن التحرير ــ كما كاد أن يحدث يوم ١ فبراير عشية موقعة الجمل ــ لكان لزاما علينا القبول بالتغيير الجذرى الإجرائى واستكمال الضغط الشعبى الهادف إلى إحلال عميق داخل مؤسسة الرئاسة لم يكن بالضرورة ليبدأ بإسقاط رأس الدولة.

 

إذا الثورة الحقيقية.. هى من يجعل ثائرها الإطار الأخلاقى لفعله محددا بشرطين:

 

أولهما: الإعراض عن ‹الوصاية› على المجتمع ــ حتى لو كان متيقنا من حِكمِة ما يفعل..

 

 ثانيهما: أن يفضى كل تحرك له عن تكريس لمؤسسات دولته القائمة أو القادمة، معنى وواقعا مؤسسيا..

 

 واذا اخترنا نموذجا من ثورة ٢٥ يناير لكى نوضح مانقول.. نجد أن آخر ملمح ظاهر للاستبداد العسكرى تمثل فى الإعلان الدستورى المكمل وتوابعه.. ورغم كونه كان مرفوضا منا بالقطع لطبيعة استبداده التى تبدت فى تجاوز الوكالة الشعبية لإدارة الانتقال.. ولكنه أيضا لم يكن محلا لإجماع أو توافق مجتمعى بشأن كونه ملمحا لاستبداد، حتى وان كان محلا لتوافق قوى سياسية بعينها وقوى مجتمعية أخرى..

 

 وعليه الدفع به على كونه الفساد الذى حاز شرعية ‹صدام الهدم الثورى› ضد المؤسسة العسكرية حينها وليس ‹النضال من أجل إصلاحها الجذرى›.. يكون فيه شبهة الوصاية على المجتمع ــ حتى وإن كان رأيى كما أسلفت أن الاستبداد بادٍ ــ فلا يمنعنا ذلك من أن نبصر بنوع الخطر الوارد وقوعه ــ على مؤسسة نملكها نحن قبل أن يملكها فاسديها ــ حال الدفع فى هذا الاتجاه..

 

وقد انتهى الأمر بأن اتخذت المؤسسة العسكرية أولى الخطوات تجاه تطهير نفسها.. بإزاحة رءوسها المتمثلين فى المشير ورئيس أركانه بانقلاب مؤسسى ناعم.. أعطى له الغطاء الدستورى بقرارات رئاسية ولكن بقى أن مراحل إصلاحها الهيكلى الجذرى التالية تتم من داخلها وبقوانينها ولكن بالرقابة الشعبية الملحة عليها.. ودون هدم أو صدام

 

وكذلك إذا خيرنا بين القبول بحكم الدستورية فى شأن حل البرلمان أو عدم الامتثال له بحجة فساد المؤسسة القضائية أو بين القبول بتغول مؤسسة الرئاسة على السلطة القضائية المكافئة لها والمتمثل فى محاولة الإيحاء بإقالة للنائب العام من طرف رئيس الجمهورية ــ وهو فعل خارج سلطات الرئاسة وصلاحياتها ــ بحجة فساد القضاء أيضا..

 

فنقول حتى يشرعن الجسد المجتمعى الأوسع (والجسد المجتمعى الأوسع ليس بالقطع الفصائل السياسية الأظهر إعلاما أو الأخرى الأقدر حشدا) الصدام الهدمى مع مؤسسة القضاء ــ حين يعلنها مؤسسة مارقة ــ فالاختيار الثورى هو  الامتثال لقانون السلطة القضائية صيانة لهيكل المؤسسة القضائية ــ التى نملكها نحن قبل أن يملكها فاسدوها ــ ثم العمل الشعبى على تطهيرها جذريا ومن داخلها.. وهكذا تكون ثورتنا ضدها..

 

هكذا كان عمق ثورتنا المصرية وعبقريتها.. حين استطاعت ولم تزل ــ أن تعرف متى وكيف تصعد وتصطدم وبأى شرعية تهدم.. ومتى وكيف تهدأ وتعذر درءا لمظنة الوصاية على شعب هو مصدر شرعيتها وقوتها.. وهى تهادن دون أن تقبل الدنية فى وطنها.. وألا تحال من «ثورة» إلى ‹فتنة›.. رغم كيد كائديها.. فسادا وجُهالا.. 

 

‹شعرة› تلك التى تفصل بين الثورة والفتنة.. وهى شعرة ‹الوصاية› على شرعية الشعب أو محاولة احتكارها فى شخص أو تيار..

 

أما من أحال الفعل الثورى إلى استنفار لقطاعات فى المجتمع (وهنا تتحمل كل التيارات السياسية بكل الوانها المسئولية) ضد بعضها تاره وضد مؤسسات الدولة تاره ــ فى إطار مماحكات وصراعات سياسية تهدف للوصاية على المجتمع أو احتكار شرعيته، فهو يؤسس لفتنة صراع أهلى.. قد تودى بالمجتمع وتودى به هو قبل غيره.. وأعتقد أن صدامات الجمعة ١٢ أكتوبر بين «شركاء الثورة ــ فرقاء السياسة» كانت مؤلمة وكاشفة.. وقديما قيل الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها...

 

ثلاثية الثورة والدولة والنظام باقية معنا حتى حين.. ولكن فى إطار حرب استنزاف يخوضها عموم المصريين ــ قبل ساستهم أو دون ساستهم ــ  ضد الفساد والجهل.. ولن يسمحوا فى ذلك الصراع لمماحكات السياسة أن تقتل ثورتهم باسم الدولة أو أن تُقتل دولتهم باسم الثورة لكى يبقى النظام أو التنظيم حيا!

 

فكروا تصحوا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved