التعامل مع الصين بين المراعاة والتحدى

بسمة قضماني
بسمة قضماني

آخر تحديث: الأربعاء 24 نوفمبر 2010 - 10:18 ص بتوقيت القاهرة

 يتم التحضير لإخراج دقيق لحفل تسليم جائزة نوبل للسلام فى العاصمة النرويجية المحدد موعده الأسبوع المقبل. فقد منحت لجنة نوبل جائزة السلام هذا العام للمعارض الصينى ليو كسياوبو الذى يقضى حكما بالسجن لأحد عشر عاما بتهمة التخريب. كان ليو قد نشر بيانا ينادى فيه بإصلاح نظام الحزب الواحد فى البلاد، فقررت الحكومة الصينية أن تتعامل معه على أنه مجرم كما يحصل فى العديد من بلدان العالم. لقد جرت العادة أن تمنح اللجنة هذه الجائزة لشخصيات معارضة تحت الاعتقال. فهذا ما فعلته فى العام الماضى عندما منحت الجائزة لزعيمة المعارضة البورمية أون سان سو كيى التى أفرجت عنها السلطات منذ أسبوع واحد فقط بعد عشرين عاما قضت جزءا منها فى السجن والجزء الآخر فى الإقامة الجبرية. وكان ابنها هو الذى حضر إلى أوسلو لتسلم الجائزة نيابة عنها. كذلك منحت الجائزة فى الماضى لمعارضين أصبحوا رموزا دوليين مثل القائد النقابى البولندى ليش فاليزا فى عام 1983 أيام الحرب الباردة ومن قبله عالم الفيزياء والمعارض الروسى أندرى ساخاروف عام 1975، ففى جميع الحالات كان يحضر عضو من العائلة لتسلم الجائزة.

منذ أن أعلنت اللجنة عن اختيارها هذا، بدأت بالتحضير للحفل الذى يتوقع أن يحضره نحو ألف مدعو وحيث ستلقى فيه الممثلة السويدية الشهيرة ليف أولمان خطابا وكان من المفترض أن تسلم الجائزة للفائز بها شخصيا أو لعضو مقرّب من عائلته. لقد انطلقت مع التحضيرات للحفل تغطية إعلامية واسعة فى الصحف العالمية لممارسات السلطات الصينية تركّز على أن مستوى الممانعة هذه المرة غير مسبوق فى تاريخ الجائزة. ففى بداية هذا الشهر بعثت الحكومة الصينية برسائل إلى جميع السفارات فى العاصمة النرويجية لإقناعهم بعدم حضور الحفل مستخدمة وسائل مختلفة بما فيها التهديد بأنهم قد يعرّضون بلادهم «لنتائج» لن تكون إيجابية بالتأكيد إذا أظهرت حكوماتهم أى تأييد لليو كسياوبو. الرسائل أدت نتائجها على الفور لدى بعض الدول إذ اعتذرت روسيا وكوبا والمغرب والعراق عن عدم الحضور على الفور بينما أكد ست وثلاثون دولة حضورها حتى الآن. وقامت السلطات بوضع زوجة ليو كسياوبو تحت الإقامة الجبرية فور الإعلان عن منح الجائزة فى الشهر الماضى ووضعت إخوته تحت الرقابة ومنعتهم من التواصل مع الإعلام. وبذلك لن تسمح لأى عضو من عائلة ليو أن يحضر لتسلم الشهادة والنيشان الذهبى ومبلغ المليون دولار وهو قيمة الجائزة. وذكرت بعض الصحف بأنه حتى إبان عهد هتلر فى ألمانيا فى الثلاثينيات من القرن الماضى فقد سمح لمحام صحفى كان قد أمضى سنوات فى معسكر اعتقال نازى بالسفر إلى أوسلو لتسلم الجائزة ومكافأتها المالية.

بذلك تقوم لجنة نوبل بعملية إحراج مبرمجة للنظام الصينى مستغلة موقعها الحيادى لفضح ممارسات الدول. وهى غير معنية بمراعاة الحكومات بما فى ذلك سلطات القوى العظمى الجديدة لأنه لا مصالح لها مع أى حكومة. لذلك يأتى انتقام السلطات الصينية على شكل الضغط على ممثلى الحكومات لمقاطعة الحفل فبيجين مصممة ألا تترك لأى حكومة مجالا لأن تختبئ وراء لجنة نوبل لتدين الصين، وعملت على تحديد مضمون الرسالة باتجاه كل حكومة على حدة حسب مصالحها وهى قادرة بالطبع على التأثير بشكل فعال لأن الدول لا تستطيع أن تتحمّل انتقاما قد يضر بمصالحها الاقتصادية والمالية.

فهل تخضع الحكومات وتستجيب للإنذارات الصينية وتقاطع الحفل؟ إنه مجرد حفل. لكن وبفضل الضجة الإعلامية التى يثيرها، والتى يساهم فى تأجيجها رد الفعل الصينى، تحولت المناسبة إلى عملية إحراج قصوى لمواجهة الاستبداد بأسلوب سلمى تصعب مهاجمته. فالضرر أصبح تحصيل حاصل إن حضر ممثلو الدول أم قاطعوا، فقد أصبح ليو من أشهر الشخصيات المعارضة فى العالم وتأمل العديد من الدول أن يبقى فى التاريخ كالرمز الذى جعل العالم يقف فى وجه الاستبداد الصينى على مدى قرن من الزمن.

وقد سئل الرئيس الفرنسى ساركوزى فى مقابلة تليفزيونية مؤخرا عن موقفه من الناشط الصينى وجاءت المقابلة بعد أسبوع فقط من زيارة رسمية للرئيس الصينى إلى فرنسا تم خلالها الاتفاق على توقيع عشرات العقود التجارية بمبالغ خيالية. كان السؤال عما إذا كان ساركوزى قد أثار هذا الموضوع فى لقاءاته المغلقة مع الرئيس هو لأن الصحافة لم تسمع أى تصريح علنى فجاء الرد بمنتهى الذكاء «لقد تناقشنا فى شئون حقوق الإنسان وخاصة فى حالة السيدة البيرمانية أونج سانج سو كيى وكنت قد طلبت من الرئيس هو أن يتدخل لدى القيادة البيرمانية لأن نفوذ الصين على نظام جاره الصغير قوى وفعلا تم إطلاق سراح قائدة المعارضة البيرمانية». بهذا عرف ساركوزى من أين يمسك بالعصا فأولا تجنب ذكر حتى اسم الصينى ليو ولم ينتقد السلطات الصينية بل حتى أشاد بمساهمتها فى حل قضية حقوق الإنسان فى بلد آخر صغير وأكد على عدم تدخله بالشأن الداخلى للصين الكبرى.

أظهرت قضية جائزة نوبل مجموعة من الدروس المهمة، أولها أن التدخل فى الشأن الداخلى لدولة عظمى ذات نفوذ اقتصادى يؤثر فى المصالح الحيوية لبلدان عديدة هو أمر مكلف للغاية. وبالتالى، لا يجرؤ على التصدى لهذه المهمة إلا هيئة دولية ذات مكانة معنوية مثل نوبل حيث من الصعب اتهامها بالانتهازية أو بدعم قيم غربية أو السعى إلى كسب نفوذ معيّن. وهذه الهيئة تستطيع أن تخلق حالة ارتباك لقوة عظمى على الساحة الدولية تجعل من الصعب مهاجمتها بتهمة التدخل فى الشئون الداخلية للدول. فهدا الصوت الدولى يرتفع ليضرب صورة عملاق نجح فى تقديم نموذج تنمية فريد من نوعه فى التاريخ وكسب ثقة بالذات غير مسبوقة وفهم بعمق نقاط ضعف شركائه الجدد فى الاقتصاد العالمى الحديث. ثانيا، أنه فى وجه أكبر قوة استبدادية فى العالم لا توجد قوى كثيرة مستعدة لتحديها وتعريض مصالح كبيرة للخطر من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان، فتتوجه هذه الدول إلى انتقاد دول أصغر مثل بورما وغيرها فالأمر يعود إلى حجم الدولة وليس إلى حدّة انتهاكاتها للحريات أو مبدأ السيادة فى هذا الشأن. ثالثا، أن الدول التى انضمت تلقائيا إلى الصين فى قرارها مقاطعة حفل تسليم الجائزة هى الأكثر تحسسا من التدخل الخارجى فى شئونها الداخلية مثل روسيا التى طردت من أراضيها جميع المؤسسات الأجنبية التى كانت تدعم الثورات الملونة عند جيرانها لتقطع الطريق أمام نشاطها التحريضى، والعراق الذى عرف الخراب بسبب التدخل العسكرى الأجنبى.

من خلال رد فعلها المتوتر والعنيف هذا، تُسقط الصين القناع عن حقيقة متانة نظامها السياسى وتظهر كدولة ضعيفة سياسيا تخاف من مواطنيها فيصبح إنسان واحد يجلس فى السجن كشوكة فى فخذها (ولا نقول فى صدرها) ومصدر قلق عميق. ستمر العاصفة على الأرجح بعد أيام وتعود المصالح لتسيطر على العلاقات مع الصين، ولكننا رأينا كيف تشتد شراسة نظام مستبد عندما يضعف. فالصين مقبلة على تحد كبير يتمثل فى انتقال السلطة المتوقع قريبا مع تغيير قمة الحكم. فالقضية ليست مصير ناشط سياسى واحد ولا حتى التدخل الأجنبى الانتقائى بل هى مسألة حساسية وعصبية تبديها أنظمة فقدت الثقة فى قدرتها على الاستمرار، فيصبح شأن الانتقال من قيادة الى أخرى موضع قلق وتكهنات من قبل أطراف خارجية بدلا من أن يكون نتيجة مسار داخلى. وكأن انتقال السلطة أمرغير طبيعى يجب مقاومته لمنعه من الحصول أو إلغاء كل صوت فى المجتمع حتى تتم عملية الانتقال فى غرفة معقّمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved