الترفع.. وليس الإبعاد أو المقاطعة

صبرى حافظ
صبرى حافظ

آخر تحديث: الجمعة 24 ديسمبر 2010 - 9:52 ص بتوقيت القاهرة

 تابعت فى عدد من الصحف العربية والمصرية، بعض ما كتب عن ملتقى الرواية، الذى انعقد فى الأسبوع الماضى، وعما دار فى أروقته من مهازل وما تردد فى أحاديث المشتركين المختلفة على مقهى المجلس أثناء انعقاده من نوادر

ولم أستغرب أبدا أننى لم أقرأ تغطية واحدة تزعم بنجاح الملتقى، رغم أنه دعا الكثير من الصحفيين لهذا الغرض. لأن معظم تلك التغطيات أجمعت على فشل هذا المؤتمر الذريع، برغم الحشد الضخم من الضيوف والمشاركين، وبصورة بدا أنه مبالغ فيها بدعوة المئات من المشاركين. قيل إنه جاء إلى المؤتمر 200 مدعو من الخارج ومئة من الداخل.

مما يجعلنا أمام مثل صارخ على أن ما زاد عن حده انقلب إلى ضده. وهذا ما جرى بالفعل، حيث وصف الكثيرون المؤتمر بالارتباك والازدحام والفشل والفوضى والإملال وماشابه ذلك.

فقد بدا للكثيرين أن هذا الحشد الضخم وجعجعته التى بلا طحن! لم ينعقد من أجل البحث فى مستقبل الرواية والتنبوء بمسارها «إلى أين؟» كما يقول عنوانه، وإنما كى تثبت السلطة، بعد فضيحة انتخابات مجلس الشعب المزرية، التى لا يزال عفن تزويرها يزكم الأنوف، ويعرض سمعة مصر ونظامها للسخرية والتهكم فى الصحف العربية منها والأجنبية، أنها تستطيع أن تحشد المثقفين فى حظيرتها سيئة السمعة، وبأعداد غفيرة. فلم يتمخض هذا المؤتمر فى كل ما قرأت من تغطيات إلا عن منح جائزة القاهرة للإبداع الروائى للكاتب الليبى الكبير إبراهيم الكونى، الذى كان يستحق هذه الجائزة منذ دورة هذا المؤتمر الأولى قبل عقد من الزمان. وباستثناء منح الجائزة لكاتب تجمع الحركة الأدبية العربية على أهمية إنجازه الروائى وتفرده، وعلى أصالة رصيده الروائى وتميزه، كان كل ما تمخض عنه المؤتمر سلبيا إلى الحد الذى يمكن معه اعتباره ضربا من إهدار المال العام فيما لا يعود على الثقافة بأى نفع.

أقول: لم أستغرب وأنا أقرأ عن قاعات الندوات الخاوية، فلم يكن هناك جمهور يكفى لجلسة واحده، ناهيك عن ثلاث جلسات متزامنة. ولم أستغرب وأنا أقرأ عن المتحدثين الذين لم يتحدثوا. وعن المشاركين فى برمجة الملتقى الذين لم يلتزموا هم أنفسهم بما برمجوه فيها. فحتى جابر عصفور، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة الأسبق، وعرّاب المؤسسة الثقافية المصرية الفاسدة، وحادى إدخال هذه الأعداد الغفيرة من الكتاب والمثقفين إلى الحظيرة، لم يكلف خاطره حضور الجلسة التى كان مبرمجا للمشاركة فيها، والمخصصة لأعمال الكاتب الجزائرى الراحل الطاهر وطار، لإصابته بوعكة صحية، وليست ضميرية بالطبع!

أقول لم أستغرب أى شىء من هذا كله، لأن تكرار مثل هذه الحشود لغسل سمعة وزارة الثقافة السيئة بعد إخفاق وزيرها المدوى فى اليونسكو، وفشله حتى فى احترام تعهده الشخصى للمثقفين بترك الوزارة سواء نجح فى معركة اليونسكو أم لم ينجح، لا يمكن بأى حال من الأحوال أن ينطلى على أحد. خاصة أن المجلس المذكور قد واجه صعوبات جمة فى جمع المثقفين المصريين فى حظيرته سيئة الصيت، فيما سمى بمؤتمر المثقفين، الذى لاقى معارضة شديدة، وتنادى العديد من المثقفين لمعارضته، وإقامة مؤتمر مناهض وموازٍ له. كما تفجر جدل مهم عن ما هو المثقف؟ وهل يمثل المثقف التابع ثقافته أم أنه لا يمثل إلا أيديولوجية المؤسسة وخطابها الزائف؟ وهل باستطاعة مؤتمر لمثقفى الحظيرة أن يكون ممثلا للثقافة المصرية أو للمثقفين المصريين، الذين ترفّع الكثيرون منهم عن مباءة لعبة الدخول فى تلك الحظيرة القذرة التى تزكم رائحتها الأنوف؟ مما دفع المجلس لوضع مشروع حشد المثقفين لتأييد الوزير وتوطيد مكانته بعد إخفاق اليونسكو، واسم الدلع له مؤتمر المثقفين، على الرف بعد تعثره أو بالأحرى بعد إجهاز الرأى العام الثقافى على مشروعه المشبوه.

وتفتقت قرائح المثقف التابع عن عقد حشد جديد بديل تنسى به الحركة الثقافية مؤتمر المثقفين المغدور. كان لابد أن يكون أكثر ضخامة من ذلك الذى قاومته، بل هزمته الثقافة المصرية المستقلة. وأن يكون أيضا فى نفس التوقيت، الذى كان يزمع فيه عقد مؤتمر المثقفين المغدور، ولتذهب إلى الجحيم كل تقاليد الإعداد الجيد للمؤتمرات، والتخطيط لها قبل انعقادها بزمن طويل كى يتسنى للمشاركين إعداد مداخلات جادة وقيمة. وهذا هو ما يفسر هذه الحشود الضخمة من ثلاثمائة مشارك فى هذا المؤتمر، تم استدعاؤهم على عجل، فلم يحضر أى منهم شيئا ذا بال.

وكأن المؤسسة الثقافية الرسمية، وبعد أن التقى وجهاؤها من «أعيان» المثقفين بالسيد الرئيس قبل شهرين، تريد أن تثبت أنها ليست أقل من الحزب الوطنى قدرة على تزوير الانتخابات، أو بالأحرى على تزوير إرادة الساحة الثقافية وتشويه خطابها، والبرهنة على أن الحظيرة مملوءة حتى آخرها والحمد لله!

لكن يبدو أن الجمهور الثقافى المصرى قد اكتشف لعبة المؤسسة الفاسدة والفاقدة للمصداقية والشرعية منذ زمن غير قصير، سواء فى ذلك المجال الثقافى أو غيره من المجالات الأخرى التى يتردى فيها كل شىء باستمرار، وبإيقاعات متنامية. لذلك كان هذا الإخفاق الذريع لمؤتمر الرواية أو ملتقاها، وقاعات ندواته الخاوية. وقد سبق وكتبت قبل أسبوعين عن محاولة استخدام اسم صديقى العزيز الراحل الكبير عبدالحكيم قاسم ضمن عملية غسل السمعة تلك، وقلت إنه لو كان عبدالحكيم قاسم حيا، وأنا أعرفه كما لا يعرفه أحد من الذين احتفلوا به فى «أيام عبدالحكيم قاسم» المزرية بالمجلس قبل أسبوع أو أسبوعين من مؤتمر الرواية الفاشل، لما وافق على أن يزج باسمه فى هذه المباءة أبدا.

هنا أصل إلى السبب الذى دعانى للكتابة عن هذا المؤتمر أو الملتقى، سمه ما شئت، والذى لا يستحق أى اهتمام، ولا يستأهل الحبر الذى يراق فى مناقشة إخفاقاته. فما دفعنى للكتابة هو نفس ما دفعنى للاعتراض على تنظيم «أيام عبدالحكيم قاسم»، الذى لو كان بيننا اليوم لترفع عن المشاركة فى هذا الملتقى، كما دفعنى للكتابة حقا هو أننى قرأت فى بعض التقارير عن هذا الملتقى حديث جرى فى أروقته وعلى مقاهى المجلس عن «الإبعاد والمقاطعة». لذلك أكتب احتجاجا على استخدام هذين المصطلحين «الإبعاد» و«المقاطعة» لما ينطويان عليه من تلفيق وتزييف. فليس باستطاعة هذه المؤسسة الفاسدة أن تبعد أى مثقف حقيقى عن قارئه أو عن ساحة الفاعلية فى الحركة الثقافية العربية الواسعة، كما أنها أتفه من أن تستحق من أى مثقف حقيقى المقاطعة لأن ما تناله منهم هو الزراية والتجاهل.

فإذا كانت المؤسسة الثقافية المصرية الفاسدة قد نجحت فى التعتيم على أسماء أدبية وثقافية كبيرة، لأن أصحابها يحافظون على كرامتهم ويترفعون عن التعامل معها أو دخول حظيرتها، فإنها لحسن الحظ لم تنجح فى مد خطابها الذى يعتمد على تزييف الوعى وتشويه التاريخ الأدبى والثقافى وتخليق رأس المال الأدبى المغشوش خارج مصر، وفى عالم عربى يعرف أقدار كتاب مصر الحقيقيين وقيمة نقادها وباحثيها الكبار. لهذا كان كل سؤال عربى عن غياب روائى مصرى أو ناقد مصرى حقيقى، بمثابة «كرسى فى كلوب» هذا الفرح المغشوش!

فهل يمكن حقا أن يقام ملتقى للرواية فى مصر لا يشارك فيه صنع الله إبراهيم أو محمد البساطى أو رضوى عاشور؟ هل يمكن لمؤسسة تتسول رضا أى مثقف من الدرجة الثالثة أن تبعد أحدا، خاصة لو كان من المثقفين المستقلين، الذين يعتزون بثقافتهم وكرامتهم؟ هل يمكن إقامة ملتقى ناجح للرواية انطلاقا من موقف تلفيقى ثقافيا وأخلاقيا مهما كانت دماثة عماد أبوغازى وحياديته البادية؟ هل يمكن حقا أن تناقش قضايا الرواية، وهى أكثر الأجناس الأدبية ديمقراطية وأكثرها علمانية فى مجتمع لا توجد فيه أى ممارسة ديموقراطية، ويتم فيه تزوير الانتخابات بالجملة؟ هل تستطيع المؤسسة مهما كان جبروتها، ومهما عظمت قيمة جوائزها أن تصنع كاتبا حقيقيا واحدا؟ لقد أثبت فشل ملتقى الرواية الذريع أن عمر الكذب قصير، وأنه لا يصح فى نهاية المطاف إلا الصحيح! فالكتاب المصريون الذين لم يشتركوا فى هذا السيرك، برغم قلة عددهم فضحوا أكذوبته، ليس لأنهم أبعدوا عنه كما يحلو للمثقف التابع أن يردد، ولا حتى لأنهم قاطعوه؟ ولكن لأنهم حقا ترفعوا عن مثل تلك الممارسات المملة والمغشوشة، والتى لحسن الحظ، وبإجماع التغطيات الصحفية، لم تنطلِ على أحد من الضيوف أو المقيمين على السواء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved