الشعب الفرنسى وحالة «المزاج الثورى»
وليد محمود عبد الناصر
آخر تحديث:
الإثنين 24 ديسمبر 2018 - 11:45 م
بتوقيت القاهرة
أبدى البعض دهشته من الأحداث التى جرت فى الفترة السابقة فى الشارع الفرنسى عبر حركة الاحتجاجات الواسعة التى شملت أرجاء عديدة من فرنسا بما فى ذلك العاصمة الفرنسية «باريس»، وما ارتبط بها من ظهور وتطور دور حركة «أصحاب السترات الصفراء»، كما أطلق عليهم، وكان مصدر الدهشة لدى هؤلاء هو وجود ديمقراطية فى فرنسا تسمح للمحتجين على أوضاع أو قرارات أو قوانين ما الالتجاء إلى طرق سلمية دستورية متعارف عليها وتم اللجوء إليها من قبل فى حالات كثيرة، وذلك تجنبا لما وقع من خسائر فى الأرواح وإصابات لأفراد، بالإضافة بالطبع إلى ما وقع من خسائر مادية نتيجة الحرائق والمواجهات، وهو ما أدى بدوره إلى خسائر جمة للاقتصاد الفرنسى، سوف تدفع ثمنها ليس فقط فى الوقت الراهن، بل فى المستقبل القريب على الأقل، قطاعات واسعة من الفرنسيين.
كذلك قفز البعض من المحللين والمراقبين، خاصة فى منطقتنا العربية، إلى استنتاج مؤداه أن ما حدث كان بـ«فعل فاعل» من الخارج، أى «طرف ثالث»، على نسق الاتهامات التى وجهها نفس هؤلاء خلال فعاليات ما عرف بـ«الربيع العربى»، ونال الاتهام الرئيسى الإدارة الأمريكية، وعلل هؤلاء طرحهم بأن واشنطون لم تكن مرتاحة لمواقف مستقلة سعى إلى تبنيها الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» إزاء العديد من القضايا الدولية، كما أن الإدارة الأمريكية أبدت عدم تفهمها فى السابق لكون الرئيس الفرنسى قد علق بشكل سلبى فى عدة مواقف على قرارات أو سياسات تبناها الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب»، خاصة إعلانه انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من اتفاقية باريس الدولية الخاصة بتغير المناخ. وانطلقت هذه الاتهامات دون النظر للبواعث الداخلية للاضطرابات الأخيرة التى شهدها الشارع الفرنسى.
كذلك فإن هناك من قال بأن الأحداث الأخيرة ما هى إلا امتداد لأحداث سابقة كان وراءها بالأساس المهاجرون القادمون من خلفيات جغرافية وثقافية مختلفة غير أوروبية، والذين كونوا بمرور الوقت، وبفعل أماكن إقامتهم وتركزهم، أحزمة محيطة بالعاصمة باريس ليس فقط متدنية عن العاصمة فى أحوالها الاقتصادية والاجتماعية ولكنها أيضا منفصلة عنها بشكل شبه تام ثقافيا ومجتمعيا، وهو أمر لا تؤكده الأحداث الأخيرة التى جاءت عامة من شرائح مختلفة من المجتمع الفرنسى وليست مقصورة على ذوى الأصول المهاجرة حديثا إلى فرنسا.
ولكن ما نتناوله هنا هو أن الشعب الفرنسى تحديدا له تاريخ طويل من الالتجاء للعمل الجماهيرى ذات الطابع الثورى عبر ساحات الشوارع والميادين، وأن أحداث الفترة الماضية ليست استثناء من هذه القاعدة بل تأكيد لها. وهذه الحالة ذات الخصوصية للشعب الفرنسى وإن كانت قد بدأت بالثورة الفرنسية، أم الثورات فى التاريخ الإنسانى الحديث والمعاصر، عام 1789، فإنها لم تقف عندها ولم تقتصر عليها، فتلك الثورة مرت بمراحل مد وجزر ما بين فترات مد ثورى وفترات ثورة مضادة، بل ومرورا بثورات أخرى فى فرنسا ومجمل أوروبا، مثل سلسلة ثورات 1848 الشهيرة، وبالتالى أخذ الأمر عقودا حتى استقرت الجمهورية فى فرنسا، بعد ما تخلل ذلك فترات عادت فيها الملكية وأخرى تحولت البلاد فيها إلى امبراطورية، ولكن بقيت تلك الحالة الثورية للشعب الفرنسى هى التى تشكل ضمانة لأن تكون أى ردة عن الثورة هى حالة مؤقتة سرعان ما تزول بحيث تنتصر الثورة وتثبت جذور الجمهورية.
كما كان الشعب الفرنسى بالتأكيد من أكثر شعوب أوروبا مقاومة فى مواجهة الاحتلال النازى خلال الحرب العالمية الثانية، وأذاق الشعب الفرنسى بمقاومته العنيدة والعنيفة فى آن واحد المحتلين من جيوش الفوهرر هتلر أشد صنوف البسالة فى الذود عن بلدهم واستقلاله، حتى صارت هذه المقاومة الفرنسية مضرب الأمثال لشعوب أخرى فى القارة الأوروبية وخارجها فى تلك الحرب العظمى، وبحيث شارك جيش «فرنسا الحرة» لاحقا فى تحرير عدد من البلدان الأوربية الأخرى من نير الاحتلال النازى والفاشى.
وأصر الشعب الفرنسى على الريادة مرة أخرى، اوروبيا وعالميا من جديد، عندما انتفض الشباب الفرنسى فى عام 1968 فى مواجهة قائده التاريخى الذى قاد فرنسا للانتصار فى الحرب العالمية الثانية وأسس عام 1958 الجمهورية الفرنسية الخامسة، الموجودة حتى الآن، وهو الجنرال «شارل ديجول»، حيث إن أجيالا من الشباب الفرنسى كانت قد ولدت وترعرعت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وأصبح لها مطالب تتعلق بما رأته تطبيقا كاملا لمبادئ الثورة الفرنسية (الحرية، الأخوة، المساواة)، وتأثر هؤلاء أيضا بأطياف فكر «اليسار الجديد» الذى علا نجمه فى سماء أوروبا الغربية فى ستينيات القرن العشرين، وانطلق هذا الشباب الفرنسى فى موجات احتجاجية واسعة، شملت مختلف شرائح المجتمع الفرنسى، وأدت فى نهاية الأمر، وتحديدا فى عام 1969، إلى استقالة الجنرال «ديجول» من الرئاسة الفرنسية تنفيذا لتعهد قطعه على نفسه إذا ما خسر استفتاءً شعبيا على نسق من السياسات والإصلاحات التى تقدمت بها حكومته للشعب الفرنسى آنذاك، ورفضت غالبية الشعب الفرنسى تلك الاقتراحات فاستقال الرجل بشجاعة الفرسان وخرج من المشهد السياسى الفرنسى كلية.
وكان ما سبق مجرد استحضار لوقائع تاريخية على سبيل المثال لا الحصر تساعدنا على أن نرى أن للشعب الفرنسى باع طويل فى اللجوء للاحتجاجات الجماهيرية الواسعة فى الشارع للتعبير عن رفضه لسياسات أو التحفظ على قرارات أو إبداء الغضب إزاء مواقف من جانب حكومته، ضمن منظومة واسعة من الوسائل والآليات البديلة التى لجأ إليها على مدى تاريخه الحديث والمعاصر، وأصبح فى بعضها يشكل نموذجا لشعوب أخرى داخل أوروبا وخارجها، وذلك حتى تتراجع حكومته عن القرارات أو السياسات أو المواقف محل الاعتراض، وهذا جزء أصيل من خصوصية التركيبة الثقافية الاجتماعية للشعب الفرنسى تناولها الكثير من العلماء فى مجالات الاجتماع والسياسة وعلم النفس على مدى عقود طويلة.