زوار لا سياح
نبيل الهادي
آخر تحديث:
الخميس 24 ديسمبر 2020 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
منذ سنوات عديدة بدأ النقاش العام ثم الدراسات المتعلقة بسياحة الأعداد الكبيرة، وكان هذا فى جانب منه رد فعل على الآثار السلبية الكبيرة فى المناطق السياحية، التى يرتادها أعداد كبيرة سنويا. وفى مدن مثل البندقية هناك حركة مجتمعية محلية مناهضة لسياحة الأعداد الكبيرة وبعضها يأخذ مظاهر احتجاجية بحرية، حيث يقوم بعض البحارة فى المراكب المحلية بإلقاء البيض على المراكب السياحية العملاقة التى تزور ميناء فينيسيا وتأثيرها على تيارات المياه مما أدى فى بعض الحالات إلى تخلخل الأرضيات الحجرية لأرصفة المشاة. كما أدت الحركة الكثيفة للمراكب الآلية الناتجة عن تحرك السياح بأعداد كبيرة فى القنوات المائية للمدينة إلى تأثير واضح على أساسات بعض المبانى.
أيضا فضل الكثير من ملاك المبانى السكنية تأجير شققهم للسياح بدلا من السكان المحليين مما يؤدى تدريجيا إلى إخلاء المدينة من مواطنيها. كما تؤدى بعض سلوكيات وتصرفات السائحين إلى التعدى على التقاليد الاجتماعية (المنفتحة)، بالإضافة إلى كميات المخلفات المهولة التى تجاهد السلطات المحلية فى جمعها والتعامل معها. لم يحدث هذا فى البندقية فقط ولكن فى مدن أوروبية كثيرة مثل برشلونة حيث ظهر تأثير تأجير الشقق للسياح واضحا فى نقص واضح للسكن واضطرار العديد للتخلى عن شققهم التى عاشوا فيها طويلا.
***
التأثيرات البيئية هى إحدى المشاكل الكبرى المصاحبة لسياحة الأعداد الكبيرة وهو ما تم ملاحظته مثلا بعد الإغلاق الأول بسبب جائحة كورونا فى شفافية وجودة المياه فى البندقية مقارنة بما كانت عليه سابقا. وأيضا فى تحسن جودة الهواء وتقليل الضغط على العناصر البيئة الأخرى. ولا أشك فى أن الشعاب المرجانية فى البحر الأحمر وأسماكها الرائعة تعيش بعضا من أفضل أيامها الآن بعد أن استراحت من الضغوط الكبيرة التى يمارسها بعض الغواصين وممارسى الرياضات البحرية الأخرى. أضف إلى ذلك قلة المخلفات السائلة المحملة بالكيماويات والناتجة عن تحلية مياه البحر لتلبية احتياجات السائحين والتى تنتهى فى مياه البحر وبيئتها الهشة.
منذ مارس الماضى انخفضت حركة الطيران الدولية بصورة ملحوظة نتيجة المخاوف من الإصابة بالفيروس التنفسى كوفيدــ 19 وهو ما أثر تأثيرا كبيرا على الأنشطة السياحية حول العالم وكان لمصر نصيب كبير من هذا التأثر. وليس واضحا متى سنتمكن من السيطرة على ذلك الفيروس واستئناف حركة السفر والأنشطة السياحية بأمان. بعض التوقعات التى سمعتها من أحد كبار المسئولين فى الشركة الألمانية الكبرى للطيران تطرح احتمال أن يمثل عام 2025 بداية لاستعادة حركة الطيران كما كانت. وبالرغم من أن ذلك ليس بالمؤكد ولكننا يجب أن نتحوط لإمكانية امتداد فترة تأثرنا بالجائحة ونعمل على إعداد التصورات لكيفية الاستجابة لهذا الوضع الراهن وأيضا ماذا سنفعل بعد أن تنقضى تلك الفترة العصيبة والتى من المتوقع بل ومن المطلوب أن تختلف الأمور فيها عما كانت عليه وربما يكون ذلك للأفضل كما يتمنى الكثيرون.
وتمثل فترة عدم اليقين هذه فرصة لمراجعة الجوانب المختلفة للأنشطة السياحية الكثيفة وخاصة تلك التى لها تأثير ضار على البيئة وخاصة الشعاب المرجانية فى البحر الأحمر والتى من الصعب تعويض الدمار الذى لحق بها ومن المهم جدا العمل على الحفاظ على المتبقى منها وتنشيط الدراسات التى تبحث فى إعادة تأهيل ما تضرر منها، لاستعادة الحياة البحرية فى تلك الأماكن. من المهم أيضا مراجعة ما تم من ردم فى البحر وتدخلات خاطئة فى خط الشاطئ وهنا لا ينبغى أن تكون الغرامات والمخالفات وسيلة للمعالجة؛ إذ إن تلك البيئة وعناصرها لا يمكن تقديرها بثمن ويجب العمل دون تأخير على إعادة تأهيلها وصيانتها وربما استعادة وضعها الأصلى إن أمكن.
ما أقصده هو العمل على دراسة كيفية تحويل ذلك النشاط السياحى إلى الكيفية التى لا تضر بالبيئة وبما يخدم الاقتصاد والمجتمعات المحلية. فى السنوات القليلة الماضية بدأ فى التطور فى أدبيات السياحة ما يسمونه «السياحة الذكية»، وبالرغم من أننى لا أحبذ وصف الذكية وأفضل السياحة الصديقة للكوكب (البيئة الطبيعية والناس)، إلا أننى أرى فيما تدعو إليه من دعم الأنظمة البيئية ودعم المجتمع المحلى بداية صحيحة. وهى تبدأ بأن السائح يجب أن يعاد تعريفه بـ «زائر» وأن هذا الزائر يجب تشجيعه لاستخدام الأنشطة المختلفة فى المجتمع المحلى مثل المطاعم والمكتبات وخلافه. كما يهدف ذلك التحول لحماية حياة السكان المحليين (من تأثير السياحة)، بحيث يتمكن الزائر (لا السائح) من زيارة المدينة ولكن ليس تملكها أو إعادة صياغتها لتناسبه أساسا. ومن المهم أيضا الاهتمام بالمقاصد المتنوعة كما أنه من المهم وضع حد معين للزائرين فى كل فترة زمنية، وربما إشراك الزوار فى مناقشة وربما المساعدة فى مواجهة التحديات التى تواجه المكان. ويهدف ذلك التحول إلى توفير خبرة فريدة لا مثيل لها للزوار وهو ما قد يترجم فى أعداد أقل للسائحين مع عائد أكبر وموزع على شركاء متعددين فى المدينة.
***
أحد تلاميذى قام منذ سنوات قليلة بإعداد رسالته للماجستير عن السياحة المستدامة فى مدينة القصير تستهدف ترميم وبناء بيوت للضيافة فى المدينة القديمة تسمح بأعداد قليلة من الزوار ولكنها أيضا تجلب بعض الدخل الضرورى للسكان الأقل حظا فى المدينة مع مراعاة التقاليد الثقافية والاجتماعية. ولا تحتاج تلك البيوت لتمويل كبير بما يعنى إمكانية أن تكون محلية التمويل. كما أنها لا تتطلب بناء مرافق تستهلك الكثير من الماء والمواد الأخرى وتعتمد على دعم المطاعم المحلية. وهى بهذا يمكن أن تقلل من التأثير البيئى للزائرين إلى أقل حد مع جلب منافع اقتصادية وعمل لسكان المدينة. كما قمنا فى جامعة القاهرة بإعداد دراسة على أرض شركة الفوسفات التى صدر لها قرار حكومى بتحويلها لنشاط سياحى. وفى دراستنا كان همنا وضع هذا التوازن بين البيئة والمجتمع المحلى والزوار فى صلب اقتراحنا بما يمكن من تنشيط الاقتصاد بصورة مستدامة وليس بصورة تعتمد فقط على النشاط السياحى. ويهدف المشروع المقترح منا إلى استخدام المبانى القائمة لمصنع الفوسفات سواء التاريخية منها أو تلك التى لا تمثل نفس القيمة التاريخية ولكنها مورد ثمين ينبغى الاستفادة منه فى دعم أنشطة منتجة ومستدامة. وبالتوازى مع المشروعات المقترحة سيكون هناك نشاط لرصد وتأهيل الشعاب المرجانية المواجهة لأرض المصنع وأيضا دعم لعلاقة المصنع بالمناطق السكنية والتاريخية القريبة منه. وهو ما نتمنى من الحكومة الاستفادة منه لبدء خطوات جادة لإعادة بناء مستقبل مدينة القصير بصورة مستدامة وهو ما يمكن أيضا أن يكون بداية لتحول النشاط السياحى فى البحر الأحمر بما فيه مصلحة الجميع وبما يحفظ الموارد البيئية للأجيال القادمة.
نحن الآن فى فترة زمنية يمكن أن نستفيد منها جيدا لإعادة بناء وتصور مستقبلنا ومستقبل أولادنا بصورة أكثر استدامة، ويجب علينا أن نستفيد منها لأن الأوضاع فى العالم كله وليس فى مصر وحدها لن تعود لسابق عهدها.
أستاذ العمارة بجامعة القاهرة