سمة غريبة فى العقل الجمعى المصرى تتكرر على مر العصور تنفر من الثورة وترفض تمرد الصغير على الكبير أو الوضيع على الرفيع وهى غالبا ما تنبع من أنماط السلوك الأخرى التى تفرض احترام الكبار وتشعر الصغار بالذنب إذا تمردوا. ولعل هذا ما يفسر عزوف المصريين عن الثورة بشكل عام إلا عندما تضيق بهم السبل ويصل السيل الزبى. فى فجر التاريخ غير إخناتون ديانتهم فلم يثوروا عليه بل هجروا مدينته فى هدوء إلى أن مات فعادوا لسابق عهدهم فى عبادة آمون. ومنذ بضعة أعوام دخلت بالمصادفة إلى متحف مدينة جرانثام الصغيرة فى وسط إنجلترا، وفوجئت فى أحد أركان ذلك المتحف ببرواز زجاجى بداخله رسالة بالعربية من بعض أعيان الإسكندرية إلى قائد الحملة البريطانية التى ضربت الإسكندرية ودمرت مبانيها الجميلة عند احتلال بريطانيا لمصر فى سنة 1882، كتبوا يشكرونه على إنقاذ البلاد من الفوضى، وكان ذلك فى أعقاب فشل الثورة العرابية. وتذكرت كيف هوجم عرابى بعد الثورة إلى حد اتهامه بالخيانة. وربما كانت ثورة 1919 من نوادر هبات الشعب المصرى التى لم تلحقها الإدانة أو التشويه ونجحت فى تحقيق بعض المكاسب مثل تصريح 28 فبراير وإعلان الاستقلال والدستور. ذلك أنه كان لها هدف واحد وقيادة محددة واضحة، وهى «أمور لا تشترى» كما قال أمل دنقل لكن تتوافر فى اللحظة التاريخية المناسبة.
***
وفى تاريخنا الحديث أصبح يناير شهر الهبات الشعبية والطلابية محكوما عليه دائما بالظلم والتجنى، ففى يناير 1972 هاجم السادات انتفاضة الطلاب الذين نادوا بالحرب وتحرير الأرض وعاب عليهم الطريقة التى تعاملوا بها معه ككبير العائلة، وفى 18 و19 يناير 1977 وصف هبة المصريين ضد رفع الأسعار بانتفاضة «الحرامية».
والآن كلما هلت ذكرى الخامس والعشرين من يناير المجيدة كلما ولغت ألسنة كثيرة بالباطل فى هبة المصريين الندية التى هدرت طلبا للتقدم والتطور والعدالة ثم سقطت تحت سنابك النخاسة باسم الدين وهى الآن فى مرحلة الكمون والانتظار. والنقد البناء لمسار الثورة لا يضر لكن المحزن إن النقد المغرض باستدعاء نظرية المؤامرة والعمالة لا يضر الثورة فقط ولكن يضر المجتمع المصرى كله إذ يكرس أساليب تفكير مرضية تستشرى فتغلق طرق الفهم والتدبر. وباختصار شديد الكل يعرف أن الرئيس السادات هو الذى أطلق الإخوان من جحورهم وسمح بخروج جماعات أخرى من تحت عباءتهم فى بداية السبعينيات ليلقفوا أبناء يوليو فلقفوه هو ودفع حياته ثمنا لتعاونه معهم. والكل يعرف أن مبارك لعب معهم لعبة القط والفأر، وغفل عن المهمة الأصلية وهى تنمية المجتمع والنهوض بالمصريين، ورغم أنه قيل له مرارا أن الحرب على الإرهاب لا تكون بعصا الأمن ولكن بالتطور المجتمعى والثقافى إلا أنه كان معاديا للثقافة متكبرا على المصريين يراهم شعبا يتكاثر كالأرانب ولا يستحق أكثر مما كان فيه. وسيكتب التاريخ يوما أن أهم سبب لهذه الثورة هو أن مبارك أهمل الإنسان المصرى وترك الحبل على الغارب لتجار الأراضى والخصخصة فسقط الوطن منه على عتبة التوريث المشئومة. ولأنه انهمك فى المقاصات مع الإخوان بينما حارب الأحزاب وقتل روح الحوار السياسى على مدى ثلاثين عاما لم يبق لمصر حين حانت ساعة الجد إلا نماذج شائهة من قيادات لم تحسن الجدال ولا الحوار ولم تكتسب الدراية اللازمة لإدارة الصراع السياسى. وهكذا تلقف الإخوان الكرة يوم الثامن والعشرين وسط دهشة التيار المدنى الذى غرق فى الخلافات والتنافس ونسى الكرة والملعب، وحين أفاق كانت الفأس قد وقعت فى الرأس.
***
من السهل على البعض لوم ما حدث على أنه مؤامرة غربية على الوطن، رصدت منعطف التغيير فى سن الرئيس الكهل ومرضه وتململ المصريين ورغبتهم فى التغيير فأرادت أن تسرع التفاعل وبالطريقة الغربية التى تقفز دائما فوق حقائق الواقع بتصور أن التكنولوجيا تصنع الأفكار والأهداف وليس العكس. ومن السهل لوم الهجمة الرجعية للتيار الإسلامى بجناحيه من الإخوان والسلفيين التى انقضت على الفرصة التى سنحت. ومن السهل أن يلام المجلس العسكرى لتمريره الكرة إلى ملعبهم فأساءوا للوطن ولأنفسهم وفشلوا فشلا كفيلا بخروج نهائى من المعترك رغم إصرارهم على عدم الاعتبار بما حدث. ومن السهل لوم قوى التيار المدنى التى فشلت فى الاصطفاف وفى التقييم السليم للظرف وتقديم البديل المناسب فانتهى بها الحال إلى موقف المتفرج. لكن ليس من السهل ولا الإنصاف تجاهل القيمة الحقيقية لخروج المصريين بملايينهم تعبيرا صادقا عن الرغبة فى التقدم والنهوض ورفضا للفساد والاستبداد. ذلك الخروج الواسع للشعب المصرى هو الرافد الأساسى لنهر الثورة الذى التقى عند منعطف الخامس والعشرين بتلك التيارات الفرعية التى حرفت اتجاهه ولو إلى حين. وهو نفس الخروج الذى عاد فى يونيو دفاعا عن الدولة ضد المتاجرين بالدين الذين حاولوا هدمها وإلقاءها فى حظيرة عثمانية مصطنعة.
إن الذين يلومون ثورة الخامس والعشرين مدعين أنها تسببت فى تراجع القوة المصرية واغتنام إثيوبيا وإسرائيل الفرص لتمرير مخططاتهم يتناسون خطايا النظام السابق وهم مغرضون منافقون يتصورون أنهم يرضون النظام الحالى متجاهلين حقيقة أنه جاء بتأييد المصريين نتيجة لهذه الثورة.
إن العوامل التى صنعت هبة الشعب المصرى ما زالت قائمة والرغبة مستعرة فى التقدم والنهوض واكتساب الموقع المناسب لتاريخ مصر وقيمتها فى المحيط الدولى، والحاجة ما زالت ماسة لرؤية جديدة. وقد يرى البعض أن الثورة المصرية تراجعت أو أن الشعب المصرى قد استنفذ طاقة الرفض، لكنها فى الأغلب استراحة محارب يحسب ويراقب. وهذا «اليناير» قد مر بنا هذا العام والساحة أخليت من السجال ربما استعدادا لتركيز الجهود فى مواجهة خطر خارجى مركب قد تبدأ موجاته فى الهبوب بمجرد إعلان نتيجة الانتخابات القادمة وهى مسئولية هائلة تقع على الرئيس وفريقه، وإنا لمنتظرون.