ورطة جاوس
نيفين مسعد
آخر تحديث:
الخميس 25 يناير 2024 - 8:00 م
بتوقيت القاهرة
البروفيسور كارل فريدريش جاوس هو فيزيائي وعالم رياضيات ألماني نابغة وُلد في القرن الثامن عشر، واخترع لنا منحنى اتُفق على تسميته بمنحنى التوزيع الطبيعي لأنه يرسم لنا الشكل الذي ينبغي أن يكون عليه التوزيع المنطقي لكل الظواهر والأشياء. وجوهر هذا النموذج هو محدودية الشريحتين العليا والدنيا في أي توزيع مقابل اتساع الشريحة الوسطى فيه، فإذا حاولنا مثلًا التعرّف على التوزيع العُمري للسكان في مجتمع من المجتمعات، يكون الشكل الطبيعي للمنحنى هو محدودية شريحة كبار السّن والأطفال مقابل زيادة شريحة متوسطي السّن. وإذا كنّا في مجال التعليم، تكون النتيجة المثالية هي التي تقّل فيها نسبة النوابغ والراسبين مقابل زيادة نسبة متوسطّي المستوى. هذا النموذج يبدو منطقيًا ومقبولًا لأنه يقول لنا أن القاعدة تكون هي الأصل وأن الاستثناء يظّل نادرًا، لكن المشكلة هي حين يحكمنا النموذج الجاوسي ويتمكّن منّا إلى الحد الذي نكون فيه أمام خيارين، إما تعديل الواقع حتى يتطابق مع النموذج، أو الخروج على النموذج نزولًا على معطيات الواقع ولو كان غير طبيعي.
• • •
انتهَت امتحانات الفصل الدراسي الأول في المدارس والجامعات وحان موعد تصحيح أوراق الإجابة، وتلك في رأيي الشخصي أسخف مهمة يمكن أن يقوم بها إنسان على وجه الأرض، ففيها قدر غير معقول من الرتابة والملل مع تكرار نفس السلوك لعشرات ومئات، وفي بعض الكليات لآلاف المرّات. في التصحيح لا يغادر ذاكرتي مشهد شارلي شابلن عندما تقوم الآلة بمسح فمه كلما تناوَل لقمة طعام أو أخذ رشفة من طبق حساء، ويتكرّر معه هذا الأمر إلى أن ينتهي من الطعام، أو في حالتنا هنا إلى أن ينتهي التصحيح. مع استلام أوراق الإجابة نأخذ ورقة بها الضوابط التي من المفترض أن تحكم عملية التصحيح، وعلى رأسها أن تأتي نتائج الطلاب، بقدر الإمكان، متوافقة مع توزيع الدرجات على منحنى جاوس، ولمزيد من التوضيح يتّم تحديد النسب المفترض أن تتوزَع عليها تقديرات الامتياز والجيد جدًا والجيد والرسوب في النتيجة النهائية للتصحيح. وهذا التقليد بدأ من فترة ليست طويلة كجزء من متطلبات التأكد من جودة العملية التعليمية واعتمادها، وآه مما يتطلبه الحصول على شهادة الجودة والاعتماد وتجديدها بشكلٍ دوريٍ، وثائق ومستندات وأوراق ودفاتر وملفّات حدّث عنها ولا حرج، وزيارات ولقاءات وتفتيش وسين وجيم. أما أيام زمان فلم يكن نموذج جاوس يحكمنا. عمومًا هذا ما صار إليه الحال، وبالتالي مع كل نهاية أحد الفصول الدراسية نقول باسم الله الرحمن الرحيم ونبدأ التصحيح.
• • •
مستويات تحصيل الطلاب في الدفعات المتتالية لا يشبه بعضها البعض، وهذا أمر طبيعي جدًا لأنه لا يوجد في الحياة شئ يتكرّر بحذافيره من عام إلى عام حتى وإن لم يعجب هذا الكلام كارل فريدريش جاوس. وبالتالي فإن من الوارد جدًا أن يكون أكثر الطلاب في دفعة من الدفعات من المتفوقين، أو تكون نسبة الطلاب الراسبين مرتفعة، ووارد طبعًا أن يكون متوسطو المستوى هم الأغلبية. بعبارة أخرى فإن كل دفعة من الدفعات تصنع منحناها بنفسها لأسباب تخّص تركيبة الطلّاب وقدرتهم على التحصيل، والأهم من ذلك الظروف التي دخلوا فيها إحدى كليات القمّة ككلية الاقتصاد والعلوم السياسية أو الطّب أو الهندسة، وهذا له علاقة مباشرة بنظام الثانوية العامة. يتغيّر هذا النظام تباعًا فيكون اجتياز الثانوية العامة على مرحلتين مرة وعلى مرحلة واحدة مرة أخرى، وتتّم محاربة الدروس الخصوصية تارةً ويجري تقنينها تارةً أخرى، يضاف إلى ذلك التغيّر في المقررات الدراسية ومستوى الامتحانات سهولةً وصعوبةً ومدى انتشار ظاهرة الغش.. إلخ، وعدد آخر لا يمكن التكهّن به من المتغيّرات والعوامل والظروف. ولا تتضّح النتائج النهائية وموقعها من التوزيع الطبيعي على منحنى جاوس حتى تتّم عملية التصحيح بسلام وأمان، وهنا تكون الورطة التي يفترض ألا تنشأ ابتداءً لأن المنحنى صنعه إنسان فكيف إذن يتحكّم المنحنى في الإنسان؟ ومع أن جاوس عاش في عصر ما قبل الذكاء الاصطناعي، إلا أن المعضلة التي يطرحها منحنى التوزيع الطبيعي تكبر أكثر وأكثر في ظل تطوّر الذكاء الاصطناعي إلى حد الخوف من الاستغناء عن الإنسان نفسه، وهو خوف حقيقي. لكن في حدود العلاقة مع منحنى جاوس ستظل معضلة زيادة أو تخفيض نسب المتفوقين والمتوسطين والراسبين بما يتلاءم مع نسب التوزيع الطبيعي-معضلةً قائمةً.
• • •
من باب الفضول أحببتُ أن أرى كيف توصّل جاوس لرسم منحناه الشهير فوجدت في التعريف بجهوده عناصر المعادلة التالية التي أرجو أن أكون قد نقشتها نقشًا دقيقًا: إف أوف إكس يساوي واحد على سيجما في الجذر التربيعي لاثنين سيجما إكسبوتينشال ناقص نصف في ميو ناقص إكس على سيجما أس تربيع..... يا لطيف اللطف ومنجّي من الأهوال يا رب. من غير الاستعانة بصديق مخلص كان من المستحيل عرض عناصر معادلة جاوس على هذا النحو العجيب، فأن تطلب من المتخصّص في المواد النظرية قراءة هذه الطلاسم هو نفس الوضع عندما تطلُب من المتكلّم باللغة السواحيلية أن يقرأ عنوانًا باللغة الصينية مثلًا، هذه رسوم وتلك رسوم، لا يوجد فرق. فهل نفرح بالعلم لأنه وضَع لنا مقياسًا رياضيًا نسترشد به لتصبح أحكامنا أقرب ما تكون للتوافق مع الاتجاهات العامة للأشياء والظواهر والنتائج، أم نخشى من العلم لأنه يعقّد حياتنا ويجعلنا كما لو كنّا نضع داخل عقولنا منظّمات للأحكام والتقديرات كتلك المنظّمات التي يضعها الأطباء داخل صدورنا أحيانًا لضبط دقّات القلوب؟ فعلًا ليست لدي إجابة واحدة على هذا السؤال، فمثلي مثل كل الناس مستفيدة من ثمار تطوّر العلم، لكني أخشى مثلهم أيضًا من أن يجور هذا التطوّر بمرور الوقت على إنسانيتنا أكثر فأكثر، وبدلًا من أن نكون أمام ورطة جاوس واحدة نكون أمام كتلة من الورطات بلا عدد.