فيما تعنيــه الأوطـــان
سعيد الكفراوى
آخر تحديث:
الجمعة 25 فبراير 2011 - 10:51 ص
بتوقيت القاهرة
أمام جروبى ــ طلعت حرب ــ وسط المدينة التى تباركها الآن يد الله، وتحت شرفة الحزب، كان يطل على من فوق: الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وعبدالحليم حافظ وأم كلثوم وسيد درويش وبيرم التونسى والسنباطى، وكانوا ينشدون: السلام عليك يا مصر، ثم يرتلون أغانيهم القديمة ــ الجديدة فيستعيدون الوطن
وكان الناس المصريون فى الميدان بالملايين ينشدون، شغوفين: مصر يا امة يا بهية... يا أم طرحة وجلابية... الزمن شاب وأنت شابة... هو رايح وأنت جايه.
وكانوا يرفعون الأعلام، ويدقون الأرض بإقدامهم ويتطلعون ناحية السماء، وكانت فى الركن البعيد طفلة فى عمر الرابعة تلتف بالعلم وتغنى لنفسها عن الوطن.
وأنا فى الميدان مخطوفا، أردد الغناء معهم، وأهتف مع الهاتفين ولست بقادر أن أوقف الدمع من عينى.. يختلط على زمانى، ولا أعرف فى أى زمن أعيش ؟! كما إننى لا أستطيع أن أعثر على ذاتى وسط الجموع
الذى قال فى كتاب التواريخ، لعله الجاحظ: إن عجائب الدنيا ثلاثون، عشرة منها فى سائر الدنيا والباقى فى مصر ومنها الهرمان وصنم الهرمين وبربا اخميم ومنار الإسكندرية والقبة الخضراء التى تضىء فى الليل المظلم ومنها النيل الذى ينبع من الجنة ويصب فى الجنة وفيها شجرة من السنط إذا هددتها بالقطع تذبل أوراقها فإذا قلنا لها عفونا عنك اخضرت، وقال الله عنها سبحانه: «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين»، وقال أيضا حكاية عن الفرعون: «أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى، أفلا تبصرون». وقال حكاية عن يوسف عليه السلام «اجعلنى على خزائن الأرض» يعنى مصر، وبها قديما علم النجوم والفلك، وعلم السحر والطلسمات، وقلم الطير على جدران المعابد القديمة، وبها المساجد التى يهابها الدهر أن يفنى ولا تفنى
فسبحان الذى أجرى ماءها، وعلم شعبها حكمة الصبر على المكاره، وتأمل الخواتيم وانتظار الزلزلة، حتى إذا جاء الأوان نفذت حكمته فى الدهر فتتغير الدنيا من حال لحال لتصدق كلمته وتتحقق مقولة الولى العربى: من أرادها بسوء قصمة الله.
أيام من الزمن 18.. اهبط من بيتى، متخطيا الحواجز المقامة حماية لأبناء الدار، رافعا يدى فى استسلام الآمنين لعيال الله ليلا ونهارا، بعدها أتوجه ناحية ميدان جليلة الجليلات ستنا عائشة حتى ميدان التحرير، وميدان التحرير لمن لا يعرف كان اسمه الإسماعيلية على اسم من أنشاه: الخديو إسماعيل حفيد ولى النعم محمد على باشا عليه سلام الله.. شهد الميدان مجد الوطن وانكساره طوال تاريخه الحديث... فى الهزائم تفر نحوه الجموع حاملة أحزانها وتتجمع مالئة السماء بالعويل.. حدث ذلك فى زمن تنحى الزعيم حين قابل وجه الله بعد هزيمة يونية الفادحة.. وفى الانتصارات وأحوال المظاهرات وأفراح الشعب تتجمع الجموع لا نعرف من أين تنبع مثل السيل.. حوارى قديمة من عمر الزمن.. وبيوت خالدة لها ابهة الملك وعراقة القديم الباقى.. وأزقة لا ترى لها آخر حيث تسمع وطء الخطو لطالبى التغيير.. سكك وطرق وحوارى وعطوف وشوارع، قرى من البرارى وعزب وكفور، ومدن للفقراء ومساتير الله، ينفلتون من غبش الليل فإذا بالنهار يطلع وأنا العجوز الهرم أشم أحجار الشوارع فى انتظار الخواتيم.. ميدان هو الكعكة الحجرية حيث أنشد أمل دنقل يوما فى مثل هذه الظروف
:
ينفرجون كنبضة القلب
.
يشعلون الحناجر.
يستدفئون من البرد والظلمة القارسة.
يرفعون الأناشيد فى وجه الحرس المقترب.
يشبكون أياديهم الغضة.
لتصير سياجا يصد الرصاص.
وقال الراحل كبير المقام محمد عفيفى مطر:
وطنى السر الذى يطلع منى
خطوتى تاريخه
رأس فضا انجمه
لحمى علامات التخوم
و..أمد الجسر حتى يقتلونى
والميدان اتسع أمام انتفاضة الفقراء فى العام 1977... وهو الآن من فتح صدره لثورة الشعب فى إخوة مع ميادين مصر فى كل صوب وناحية... يهبط المطر... يغيب النهار... ويجىء الليل... والأرض رطبه وباردة والأصوات الهاتفة تخترق الميدان... الفضاء الأعلى... وهؤلاء الذين يمسكون بالزمن... كل واحد متعدد... أحلامه وصوره... وأمنيات أمه التى رحلت بحزنها... وأبيه الذى كظم غيظه ذات مساء... أمام الضابط والجابى وفارض الضريبة والغشاش والمدلس وعميل الإدارة وصوت الحاكم الكذاب ودورة الزمن الخائنة بحلمها الكابوسى... هنا ناس كثيرون راغبون فى إرادة جديدة لا تخيب وتتمنى أن تشرق الشمس مانحين إياها دفء قلوبهم... ولأننى عشت عمرى كله وراء الحواجز أسيرا للمصادرة... غيرى يفكر لى... ويعد على لقمتى وشربة مائى، ويكنز أموالى فى خزائنه فإذا سألته عنها، أجابنى: هى لك حتى إذا احتجت وجدت.. مع أننى تشهد على الشمس والريح والقمر وشهور السنة القبطية... طوبة وأمشير وبرمهات وبشنس وهاتور ومسرى وشهر العنب والتين برموده العجيب ويشهد على صحن المسجد القديم فى قريتى التى أفسدوها وشاهد مقبرة الجدود، ومسرى النيل، وتلاميذ المدارس الصغار وأمى التى رحلت حيث الله بسبب شح الدواء، والأحلام المؤجلة طوال السنين، وأولياء الله الطيبين، ومراثى العديد وأغنيات العصارى على شطان الأنهار، وصيام رمضان، وحج البيت لمن استطاع ولمن لا يستطيع ومشهد القيامة الذى أشهده الآن، والأباطرة الموصومون بمظالمنا، وأنا أقف بين السور والقيامة واندهش، تأتينى صرخة واحدة من آخر الميدان «اصحى يا مصر» فتهتز الدولة ثقيلة الوطء وحكامها الذين تحاكمهم الآن أعمالهم الموصومون بمظالمنا، وأنا أقف بين السور والقيامة هؤلاء الذين بنوا الأهرامات على أكتاف شعوبهم.... الذين لم يراعوا حرمة الوطن
وشعارات تثير الحزن وأخرى تبعث على الضحك.. شعارات مكتوبة بالرقعة والنسخ والكوفى والمغربى وخط ليس له ملة «أمش بقى أيدى وجعتنى»... آخر «عفوا نفدت المدة»... لافتة طويلة من أول الميدان لآخرة «الشعب يريد إسقاط النظام» والمنصات عليها خطباؤها... ومكاتب تحت خيم البلاستيك للإدارة والمعلومات والاتصالات وجمال تهجم تتبعها الخيول.. يشير كهل أشيب الشعر ناحية الجمال قائلا: «الحقوا أبو لهب يمتطى الناقة».. شاب يجيبه: «يابه الحاج الحقيقة أن الجمل يواجه الفيس بوك»، وهكذا تتناقض المصائر، وتختلف... وفى 25 يناير يطالب الشعب بإسقاط النظام.. ويتحدى الشعب الشرطة ويتم الاعتقال... فى الجمعة تقطع الحكومة وسائط الاتصال وتضرب المظاهرات بالرصاص والغاز وينهبون ويشعلون النار... تشتد المظاهرات وتحتشد الملايين فى أنحاء مصر ويستشهد الشهيد ويخرج البلطجية من جحورهم ويتشبث النظام بقواعده فيصدر بياناته التى يرفضها الشعب وتندفع الملايين نحو الشوارع وفى المدن والقرى... وفى الخميس 10/2 يجتمع المجلس الاعلى من غير المغضوب عليه ويصدر بيانه الأول... ترفض الجماهير كل ما يصدر عن السلطة.. يعلن نائب الرئيس تنحى الرئيس ويسدل الستار.
خاتمة
قبل إنزال الستار بيوم، وحين وصلت ميدان مصطفى كامل... يا دوب قبل الفجر بساعتين تقريبا... الميدان من غير نور واضح، شعاع يضىء تمثال الزعيم، وكنت ممتلئا بما عشته طوال الأيام السالفة، أفكر فى هؤلاء الذين ماتوا من أجل الوطن ووهبوا حياتهم له «بكل نزاهة الروح بالغريزة لا بفعل الواجب، حبا للوطن، لا وعيا بالوطن وهم الآن يزورون الأقاليم».. الا اننى رأيتهم فجأة ينبعون من الظلال، يتجسدون فى الليل بشرا. من غير منطق... هل كنت أحلم؟!.. هل أنا نائم؟!.. عندما لاحظت أنهم يتجمعون نتفا من ملامح وأعضاء، وتذكرت من قال: «فى الليل ينهض الموتى من قبورهم ويتحسسون بأطراف أناملهم أسماءهم فوق الشواهد
».
كانوا هناك.. طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ والعقاد ولويس عوض وجمال حمدان وأمل دنقل ومحمد عفيفى مطر ومحمد صالح وأسامة انور عكاشة وعدلى رزق الله وغيرهم... لم أتبين ملامحهم.. الراحلون يتبعونى حتى الميدان، ويتأملون قيامتهم الأولى.. جاءوا ليشاهدوا بدايات الأشياء ونهايتها.. وعندما أقتربت من أذن العميد طه حسين أحاول شرح ما أرى إليه، أبتسم فى وجهى وقال لى: هو أنت هاتعمل إيه يا ابنى ؟!.. ما هو أنا شايف كل حاجة.
عليهم سلام الله وعلى مصر الوطن