فى أحوال وأهوال الشأن الدينى.. هل يمكن التفكير خارج (صندوق مبارك)؟
سامح فوزي
آخر تحديث:
السبت 25 فبراير 2012 - 8:55 ص
بتوقيت القاهرة
ما حدث الأسبوعين الماضيين من توترات دينية متزامنة من العامرية (خلاف شخصى تحول إلى دينى) إلى المنيا (ممارسة شعائر دينية) مرورا بالشرقية (تداعيات عملية تحول دينى) يجعلنا نواجه حقيقة مهمة أن إنهاء تركة نظام مبارك لا يكتمل فقط بمحاكمة رموز الفساد والإفساد، أو بإعادة تشكيل المؤسسات السياسية دون تزوير إرادة المواطنين، ولكن الأهم هو التخلص من «طريقة التفكير» المباركية. أحد الملفات الكاشفة هى «الشأن الدينى»، الذى عرف ممارسات ممتدة من التكاذب واللا معقول والتسكين على مدار عقود، والآن ينقص «ثورة 25 يناير» شجاعة الخوض فيها. ظهر ذلك فى الجهود المحمودة التى سعى من خلالها مجلس الشعب والسلطات التنفيذية لاستيعاب الأزمات التى تفجرت مؤخرا، ولكن لم نر أن تفاعلات الواقع دفعت أى طرف للتفكير فى التعامل الجذرى معها.
(1)
منهج التعامل مع الشأن الدينى فى مصر لا يزال يتسم بالتحرك لإطفاء حرائق، وليس اتخاذ سياسات عامة تتصدى جذريا للمشكلات العالقة مصدر التوتر الدائم. خذ مثالا على ذلك بناء وترميم الكنائس. بعد مداولات مكثفة من «بيت العائلة» إلى «لجنة العدالة الوطنية» إلى مجلس الوزراء لاحت فى الأفق إمكانية تسوية المشكلة بإيجاد إطار قانونى يسمح بتقنين عملية بناء الكنائس حتى لا تكون سببا فى فرض قيود على مواطنين فى أداء شعائرهم الدينية، أو مدعاة لصدامات مجتمعية. لم يظهر الإطار القانونى، تشريعا أو قرارا أو لائحة، أيا كان شكله، وظلت الأمور على ما هى عليه، وأغلق موضوع النقاش فجأة دون مقدمات.
مثال آخر المشاركة السياسية للأقباط. إذ برغم أن هناك خطابات نقدية تناولت تدنى تمثيل الأقباط فى المجالس المنتخبة على مدار عقود، وكان أحرى بأن يكون «برلمان الثورة» فصل الختام لهذه المشكلة بتشجيع ودعم التنوع والتعددية، ظلت المشكلة قائمة فى حين أن قليلا من الابتكار فى قانون الانتخاب كان يمكن أن يسمح بانتخاب الفئات الأقل تمثيلا مثل الأقباط والمرأة على نحو طبيعى دون افتعال وذلك من خلال تخصيص مقعدين إضافيين على مستوى المحافظة أو عدد من المقاعد على مستوى الجمهورية للفئات الأقل تمثيلا ــ يحددها القانون ــ ويكون التنافس عليها بين المرشحين حسب انتماءاتهم الحزبية والسياسية.
(2)
تغيير المعتقد الدينى، من المسيحية إلى الإسلام، أو العكس لا تزال إحدى المشكلات التى تسبب توترا مجتمعيا، ومواجهات بين مواطنين على مستوى الشارع. تحتاج المشكلة إلى حل فى سياق دولة قانونية حديثة. تشير الممارسة المتبعة إلى أن تحول مسيحى إلى الإسلام لا تصادفه مشكلات، فى حين أن التحول من الإسلام إلى المسيحية تعترض سبيله مشكلات عدة، أبرزها عدم القدرة على الحصول على أوراق ثبوتية تسجل الحالة الدينية الجديدة للشخص (مثل بطاقة الرقم القومى)، وهو أمر ينبغى أن تقوم به الجهات الحكومية ــ التى يفترض حيادها تجاه مواطنيها ــ دون تعقيدات أمنية أو بيروقراطية ليس فقط تأكيدا لمبدأ دستورى ينص على حرية العقيدة، ولكن أيضا حتى يتبين المجتمع «الديانة الفعلية» للشخص الذى يتعامل معه ضمانا لاستقرار المعاملات والمراكز القانونية. وهناك اجتهادات معتبرة فى الفقه الإسلامى المصرى خاصة فى كتابات الشيخ محمود شلتوت والدكتور عبدالمتعال الصعيدى تحل إشكالية تغيير الفرد المسلم لمعتقده الدينى.
ومن ناحية أخرى، فقد كان ــ حتى بضع سنوات خلت ــ أن المسيحى الراغب فى التحول إلى الإسلام يمثل أمام مكتب مختص بمشيخة الأزهر، ويعطى الحق فيما يعرف «بجلسة النصح والإرشاد» التى يقدمها له رجل دين مسيحى فى مديرية الأمن للتأكد من أن تحوله الدينى جاء عن اقتناع تنتفى فيه شبهة الإكراه، ولكن قررت وزارة الداخلية –فى عهد حبيب العادلى- إلغاء جلسات النصح والإرشاد، التى كانت ممارسة عرفية وليست نصا قانونيا، مما تسبب فى اهتزاز ثقة المجتمع فى عملية التحول الدينى، وترتب عليها توترات دينية حادة. الحل ليس فى استعادة هذه الجلسات التى لا يحمل اسمها أى معنى يرتبط بالدولة الحديثة، ولكن فى التأكيد على أن مسألة تغيير المعتقد الدينى هى «حرية شخصية»، يمثل الشخص الذى يبغى ممارستها أمام قاض مختص يمكن أن نُطلق عليه «قاضى الحريات الدينية» يعلن رغبته فى تغيير ديانته، ويحصل على شهادة منه بذلك، على إثرها يجرى استيفاء المتطلبات الدينية مثل الحصول على «شهادة إشهار إسلام» إذا كان التحول إلى الإسلام أو «شهادة كنسية» إذا كان التحول للمسيحية، وذلك من المؤسسات الدينية المعنية، وبموجب الأمرين معا أى حكم القاضى وشهادة تغيير المعتقد الدينى يقوم الشخص بتغيير الأوراق الثبوتية الخاصة به حسب حالته الدينية الجديدة.
(3)
يتصل يتغيير المعتقد الدينى ما يُعرف فى الفتاوى الدينية، وممارسة المحاكم المصرية باتباع الأولاد «خير الأبوين دينا» فى حالة تغيير أحد الزوجين لمعتقده الدينى من المسيحية إلى الإسلام. إذا نحينا جانبا ما ينطوى عليه هذا المبدأ من أفضلية لعقيدة على أخرى فى الدولة، فإن من تداعياته أن يتحول رب الأسرة ــ لأى سبب من الأسباب ــ إلى الإسلام، ثم ما يلبث أن يجد الأبناء أنفسهم بالتبعية مسلمين، رغم أنهم نشأوا فى ظل أسرة مسيحية، ولا يزالون قصر. ويجد الطفل فى المدرسة نفسه ــ بين يوم وليلة ــ يحضر حصة الدين الإسلامى بعد أن كان يحضر حصة الدين المسيحى. وهو ما يشكل أزمة لهؤلاء للأطفال، واهتزازا لكيان أسرة يستوجب الدستور حمايتها. وهناك قضايا عديدة نبعت من هذه المشكلة شغلت الرأى العام خلال السنوات الماضية، وكم كان مؤلما أن نجد أطفالا يدخلون طرفا فى قضايا شائكة، ليس لهم ذنب فيها، ويصبحون ضيوفا على فضائيات تفتش فى ضمائرهم، وتستثير مشاعرهم. يمكن حل الإشكالية ــ وفق ما يقتضيه المنطق ــ بأن يظل الأبناء على الديانة التى ولدوا عليها، ولا تكون ممارسة شخص لحريته الدينية فى التحول إلى معتقد دينى آخر سببا فى مشكلات اجتماعية تطول غيره. هؤلاء الأبناء هم مواطنون فى الدولة، وليسوا «موضوعا» للانتقال القسرى بين الأديان أو التشيؤ (أى يتحولوا إلى أشياء لا عقل لهم)، وعندما يبلغون سن الرشد يختارون المعتقد الدينى الذى يروق لهم.
●●●
هذه مجرد مقترحات للتفكير خارج الصندوق الضيق المتوارث من نظام مبارك، قد يقبلها أو يرفضها البعض كليا أو جزئيا، لكنها تعبر عن تصورات لإدارة الشأن الدينى فى دولة قانونية حديثة، لا ولاية لأحد على ضمائر الأفراد، وتكون ممارسة الحرية الدينية فى إطار مدنى قانونى. فلا يصح أن يقوم مجتمع بثورة يقلب فيها نظاما سياسيا رأسا على عقب، ثم لا ينتصر لحقوق المواطن، أو يحرمه من ممارسة حرياته الأساسية. لم يعد ممكنا أن نتخلص من «مبارك» ثم نسير على طريق الأشواك الذى صنعه أو رعاه، ولكن علينا أن نفكر خارج «الصندوق»، نبحث عن حلول جذرية لقضايا شائكة. هل يمكن لمجلس الشعب أن يخوض فى هذه الملفات الشائكة أم أنه يفضل منهج «ترحيل التركة» لمراحل مقبلة؟