صنايعية عمر طاهر
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 25 فبراير 2019 - 11:50 م
بتوقيت القاهرة
أهدانى أحد الأصدقاء العاملين فى المجال الصناعى كتابا شديد التميز اسمه «صنايعية مصر» كنت قد قرأت مقالات متفرقة للكاتب الموهوب الأستاذ عمر طاهر يتناول فيها صفحات وأحاديث منتقاة من هذا الكتاب، واعتزمت اقتناءه وقراءته فور شغور موقع فى برنامجى نصف السنوى للقراءة، حتى أغرت بى هدية صديقى بغلافها القانى الجذاب فالتهمتها فى أيام.
بداية وعلى عكس ما قد يوحى عنوان المقال فلن أتناول كتاب الصنايعية بالنقد والتحليل، ولا أحسبنى أهلا لهذا، ولكن وجدت فى ترجمته المختصرة لبعض أهم أعمدة الصناعة والاقتصاد فى مصر سببا للاحتفال والتقدير، وإلقاء الضوء على علامات مضيئة فى تاريخنا الحديث، عسى أن ينتفع بها جيل جديد لا يكاد يبصر رمزا وطنيا أهلا للاقتداء به، إلا شوهته أحاديث النميمة فى غرف الإنترنت والصحف الصفراء، بزعم أن فلانا كان سكيرا وهذا كان يلعب القمار وآخر مزواجا.. وسائر ترهات التفتيش فى الضمائر وخلف أبواب غرف النوم! ثم نعجب حين يضيع الشباب الذين فرغت أوعية صدورهم وعقولهم إلا من نماذج شيوخ الفتنة والضلال وحملة ألوية الإرهاب، أنى يؤفكون؟!
إن كنت تبحث فى الكتاب عن ترجمة حياتية تقليدية لرموز مهنة بعينها، بتفاصيلها الدقيقة، وسردها المعتاد، فلن تهتدى. صفحات كتابنا ومضات مختارة من سيَر الأعلام فى فنون وصناعات شتى، لا يجمعهم إلا خطا واحدا، انتظم بهم فى عقد «عمر» الفريد، هو أنهم نبتة مصرية خالصة، رواها العرق والكفاح، ونمَت فى تربة لا تعرف المستحيل، فأورقت وأزهرت يتفيأ ظلالها إلى يوم يبعثون.
***
فما بين أعلام الصناعة والإدارة والتجارة والفنون والعلوم... يزخر كتاب الصنايعية بحكايات ممتعة كان أوفقها سياقا ــ فى رأيى ــ ما اتصل بمنتجات وعلامات تجارية دخلت كل بيت فى مصر، وظل أصحابها فى غياهب النسيان، يكابد مؤلف الكتاب مشقة الحصول على معلومة يتيمة عن قصصهم الذى يلهم قليله الشباب، ويريق كثيره حنين الكهول والشيوخ.
فهل أتاك حديث «ياسين» الزجاج، و«خريستو» الحلوى، و«شبراويشى» العطور، و«صيدناوى» المتاجر، و«أبورجيلة» الحافلات.. وأمثالهم من الأعلام؟ خلف كل اسم وعلامة أنتجها هؤلاء قصة فريدة، لا تجدها بالضرورة فى هذا الكتاب، لكنك فور استقبال ومضات من تاريخ مبدعيها، تجد نفسك نهما لمعرفة المزيد عنها وعنهم.
بعض المنتجات والعلامات التجارية التى تناولها الكاتب الأستاذ «عمر طاهر» ما زالت حية باقية. تشهد على إخلاص وتفانٍ من أجيال سلمت أجيالا سر الصنعة وحب المهنة. أذكر منها على سبيل المثال شركة النصر للزجاج والبلور التى ورد ذكرها فى ختام قصة مصانع ياسين على اعتبار أنها نهاية حزينة انتهت بالتأميم لشركة وطنية أعادت صناعة الزجاج لمصر بعد غياب طويل، ودخلت منتجاتها كل بيت. والحقيقة أن هناك تشابها كبيرا بين بدايات مصانع ياسين على يد مؤسسها «محمد سيد ياسين»، وانطلاقة إعادة الإحياء لشركة النصر للزجاج والبلور التى هى إحدى الشركات التابعة للشركة القابضة للصناعات المعدنية، وهى بدورها إحدى شركات قطاع الأعمال العام.
فبينما نشأت صناعة الزجاج أوائل الثلاثينيات من القرن الماضى فى أجواء منافسة ضارية من المنتجات المستوردة، وظروف مالية سيئة كبلت الشركة بمديونيات كبيرة، ما زالت تلك التحديات تطل برأسها على شركة النصر بعد عقود من قرار تأميم مصانع ياسين. الفرق أن صاحب المال هو الأكثر حرصا على نشاطه ومهنته، والدولة عادة ما تكون مديرا غير موفق للنشاط الاقتصادى الخاص بطبيعته. حينما شرفت بتولى مسئولية رئاسة شركة الصناعات المعدنية منذ أقل من عام، وضعت على نفسى وعلى جميع العاملين بالشركات التابعة وعددهم يقترب من الثلاثين ألفا قيدين أسأل الله ألا نحيد عنهما أبدا، فحرمة المال العام أكبر من حرمة المال الخاص، ولن تنجح شركات قطاع الأعمال العام إلا إذا أحس العاملون أنهم مستخلفون فى تلك الأموال ومحاسبون عليها. ترجمة هذين القيدين إلى حوافز وجزاءات، ثم إلى ثقافة جديدة مطبوعة بروح المستثمر الوطنى الخاص، هو التحدى الأكبر الذى نعكف عليه الآن، والذى أحسب أنه بدأ يؤتى ثمارا حميدة، فلا نكاد نستمع إلى مطلب عمالى مشروع، إلا بعد إنجاز حقيقى على أرض الواقع، لا يكفى أن ينعكس على حجم الإنتاج وحسب، ولكن على جودته وتنوعه ثم حجم الإيرادات وصافى الأرباح.
***
فى شركة النصر للزجاج والبلور خطان للإنتاج، أحدهما لأدوات المائدة، والآخر للزجاج المنقوش، لكن رصيدها الحقيقى مجموعة من العاملين المهرة الأوفياء، الذين يعرفون جيدا تاريخ هذا الصرح الصناعى، ويعينون الإدارة على تجاوز مختلف الصعاب. الشركة التى تحولت حديثا من الخسائر إلى تحقيق أرباح حدية (وهو أمر فى غاية الصعوبة يفهمه أهل الاقتصاد)، تنتظر اليوم خطة شاملة لإعادة الهيكلة المالية والإدارية، وتنويع المنتجات، مع تحديث خطوط الإنتاج، وانتهاج فلسفة تسويقية جديدة، وذلك بعد أن تم الاستحواذ عليها أخيرا من قبل الشركة القابضة المعدنية، وقد كان تطويرها الشامل مجمدا لسنوات وموقوفا على حسم خلاف مع بنك الاستثمار القومى حول قيمة حصته التى يقبلها للتخارج، وبحمد الله حسم هذا الخلاف منذ أسابيع، وليس من المستبعد أن يتم توسيع قاعدة ملكية الشركة بطرح بعض أسهمها فى البورصة فى وقت قريب.
لا أذكر ما سبق عن شركة النصر للزجاج والبلور دفاعا عن قرارات التأميم، أو انتقاصا من حقوق الرأسمالية الوطنية قبل يوليو 1952، ولكن تأكيدا على أن الأسس الراسخة التى وضعها «صنايعية» مصر بضمير خالص وعزيمة ملتهبة، أمكنها الاستمرار والثبات ضد قوانين الاقتصاد والمنطق أحيانا! خاصة إذا ثبت هذه الأسس رجال صناعة أوفياء، وجمهور من المستهلكين المشجعين للصناعات الوطنية. فمازالت منتجات النصر للزجاج والبلور ــ على قلة تنوعها حاليا ــ تدخل البيوت المصرية، وتجوب عددا من العواصم العربية فى شحنات التصدير.
لم يختر المؤلف خاتمة الصنايعية التى غلب عليها البؤس والظلم والحسرة، لكنه اختار أن يعرضها ضمن ومضاته المختصرة، وليته لم يفعل حتى لا يضيع حظ الباحث فى كتابه عن نماذج يحتذى بها، يأسا من مصائر المبدعين لهذا البلد. لا أحد يحب أن يفنى عمره فى صنعة يحبها، ولا تكون مكافأة إتقانه وتفانيه إلا الطرد والعسف والمصادرة، «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان».
***
إذا كان كتاب «صنايعية مصر» قد انتصر «طاهره» لبعض أبناء هذا الوطن من أصحاب الفضل والأيادى البيضاء والنفوس الزكية، فليس أقل من أن ننضم إليه تكريما لتلك الرموز وغيرها كل بطريقته وفى مجاله، ولنبدأ بالبيت والمدرسة، التى أدعو وزيرها للتربية والتعليم أن يضم إلى مناهجها هذا الكتاب، وغيره من كتب نشر الوفاء والعبر والإلهام.