الوصول إلى بر الأمان
محمد عبدالمنعم الشاذلي
آخر تحديث:
الثلاثاء 25 فبراير 2025 - 6:55 م
بتوقيت القاهرة
أثناء التجوال بين القنوات التى تعرض الأفلام القديمة صادفنی فیلم أبيض وأسود، عرض فى عام 1957 اسمه Abandon ship، أى اهجروا السفينة! والفيلم من إنتاج نجم هوليوود الوسيم تايرون باور وأيضا من إنتاجه.
يدور الفيلم عن باخرة سياحية تبحر فى المحيط بعد سنين من نهاية الحرب العالمية الثانية، فتصطدم بلغم شارد من بقايا الحرب. تغرق السفينة بعد دقائق من الاصطدام ويغرق معها ألف من مستقليها ويبقى بعد الحادث ٢٧ شخصا من الناجين يتكدسون فى زورق نجاة معد لحمل تسعة أشخاص. ويوصى قبطان السفينة ــ الذى أصيب إصابة بالغة من الانفجار وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ــ الضابط الأول بتولى القيادة ويعطيه خاتمه ومسدسه قبل أن يسلم الروح.
يظهر الضابط كفاءة كبيرة فى القيادة وفى اتخاذ قرارات صعبة تبدأ بإلقاء جثة القبطان فى الماء، ويضع نظاما صارما فى توزيع الطعام والماء القليل على الركاب مهددا بقتل من يسرق كسرة خبز أو شربة ماء، وقام بتوزيع دلاء صغيرة على الركاب لنزح المياه التى تدفعها الأمواج إلى الزورق حماية له من الغرق، ومراقبة من يقومون بالتجديف مراقبة صارمة. ينال الضابط احترام وتقدير الركاب رغم صرامته تقديرا منهم لدقة الموقف.
إلا أن الأمر يتغير عندما يعترف عامل اللاسلكى أنه لم يرسل رسالة استغاثة توضح موقع السفينة قبل غرقها لأن الانفجار دمر جهاز الإرسال، وبدأ الكابوس يتضح بأنهم مهما اقتصدوا فى الطعام والماء فإنها لن تكفى الجميع، وبدأ الضابط يؤكد أنه لابد من التضحية ببعض الركاب لإنقاذ الآخرين وأن تكون التضحية بالضعفاء غير القادرين على التجديف أو نزح المياه باعتبارهم وزنا زائدا يستهلكون ماء وطعاما لا يستحقونه، وعندما يعترض بحار شاب على ذلك ويقول إن الشرف والإنسانية تجعل الأقوياء فى حماية الضعفاء، فيسوق له الضابط قول داروين: «البقاء للأصلح»، فيرد الشاب البقاء للأصلح وليس للأقوى وإلا صرنا كالحيوانات فى الغاب، وبمضى الوقت يتحول الضابط إلى طاغية يشعر أنه مبعوث الرب لتحديد من يحق له الحياة ومن يموت فيلقى برجل كسرت يده وعجز عن التجديف فى البحر ويطلق مسدسه على رجل عارضه ثم يأمر البحار الشاب بإلقاء سيدة عجوز فى البحر فيمتثل للأمر لكنه يقفز معها إلى البحر ليموت معها تخليصا لضميره.
يظهر الفيلم الضابط كرجل عنده ضمير، فعندما يصاب وتضعفه الحمى يحاول إلقاء نفسه فى البحر اتباعا للقانون الذى وضعه، إلا أنه فى هذه اللحظة تظهر سفينة عابرة لتلتقط الملهوفين.
ومع اقتراب سفينة الإنقاذ تبدو سرائر الناس فيتحول من كانوا يحترمون الضابط لحزمه، الذى أنقذهم، فيتهمونه بالقتل ويصفونه بالمجرم، وعندما يواجههم بأنهم شاركوه فيما قام به يبررون ذلك قائلين: «إننا كنا نتبع الأوامر وكنت الوحيد الذى يحمل سلاحا»، بينما يصر الضابط أنه كان على حق وأنقذ من تبقى من الهلاك.
ينتهى الفيلم دون أن يصدر حكما ويترك ذلك للمتفرج. ولعل هذا الفيلم يطرح قضية أخلاقية وقانونية وفلسفية عن حدود سلطة من يتولى السلطة فى وقت الأزمات، وهل هى سلطة مطلقة لا يحدها شىء، ولعله أيضا يطرح مسئولية من يُقود ومن يُقاد.
• • •
قادنى الفيلم إلى تذكر حوار قرأته من بضع سنين بين شاب روسی بعد سقوط الاتحاد السوفيتى وبين شيخ شارك فى الثورة. يسأل الشاب عن القسوة الشديدة التى مارستها الثورة مع أعدائها، ولماذا لم تظهر الرحمة مع أحد؟ فيدافع الشيخ عن الثورة ويعدد التحديات منذ أن تسلمت الثورة المسئولية بعد حرب أهلية شاركت فيها جيوش الدول الإمبريالية وحرب عالمية دمرت البلاد تلتها حرب ثانية راح ضحيتها ٢٠ مليونا، وستار حدیدی فرض على البلاد ومؤامرات عدیدة حيكت ضدها، لم يترك الأعداء مجالا للرحمة ولا للتسامح.
البلد كان على شفا الانهيار أو الزورق كان على وشك الغرق. وكان لابد لها من قبضة حديدية للسيطرة على الأمور وعلى أی حال فقد قادت الثورة البلاد إلى بر الأمان وصارت من أكبر القوى العسكرية والعلمية والتقنية، وكانت سباقة فى اختراق الفضاء والوصول إلى الكواكب وورثت روسيا ما أنجزه الاتحاد السوفيتى وصارت دولة عظمى ذات مهابة، وساق للشاب مقولة الأديب الألمانى العظيم برتولد بريخت: «نحن من رجونا إرساء قواعد الرحمة لم نقدر أن نكون رحماء فلا تحكم علينا».
ولعل مقولة المفكر الإيرلندى Conor Cruise O'Brien: «إن فظائع وتجاوزات محاكم التفتيش لم تقلل من قيمة الكاثوليكية كما أن فظائع وتجاوزات ستالين لم تقلل من قيمة الاشتراكية» توضح المقصود.
وما يقال عن الاتحاد السوفيتی وستالين يقال أيضا عن الصين وثورة ماو تسى تونج التى انتشلت البلاد من هوان كان يفرض عليها الأفيون بالحرب وتخلف فظيع، فكانت الثورة رغم ما جرى فيها من قهر هى الخطوة الأولى للوصول إلى دولة عظمى ذات مهابة.
لعل من المفارقات أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين كانوا من أهم أسباب دفع الثورة الروسية والصينية إلى القمع والحكم البوليسى بسبب دعمهم للثورة المضادة والحصار والستار الحديدى والمؤامرات والطوابير الخامسة والتدخل العسكرى المباشر بإرسال قوة عسكرية أمريكية أوروبية ضد الثورة الروسية والدعم الهائل لقوات تشانج كاى شيك فى الصين التى دفعت الصين وروسيا إلى إجراءات بوليسية شديدة ضد المؤامرات والاختراقات.
• • •
هذه السطور ليس الغرض منها تبرير الطغيان لكنها محاولة لنظرة موضوعية للتاريخ ولفضح أجهزة الدعاية الغربية التى ظلت تهاجم روسيا والصين رغم أن معظم دول الحلفاء تاريخهم أسود، ولهم تاريخ طويل فى الطغيان والظلم: فظائع الولايات المتحدة مع الهنود الحمر ومع الزنوج والصينيين، وفظائع بريطانيا فى اسكتلندا وأيرلندا والهند والمستعمرات، وفرنسا فى إفريقيا والهند والصين.
لعل فیلم «أهجروا السفينة» يشطح بخيالى إلى المستقبل، وأتصور توابع اكتظاظ زورقنا، كوكب الأرض، بالسكان بأكثر مما يحتمل بعد أن زاد عدد السكان من بليون ونصف بليون فى بداية القرن العشرين ليصل اليوم إلى أكثر من ثمانية بلايين وهو ما أثار المخاوف من قدرة الكوكب على إطعامهم وهم يستنفدون الموارد المحدودة ويلوثون البيئة، فهل يؤدى ذلك مع استمرار الزيادة والمخاوف إلى قيام الأقوياء بما قام به الضابط فى الزورق من التضحية بالضعفاء من أجل الوصول بالأقوياء إلى بر الأمان وذلك بعمليات التعقيم الجماعى أو غيره؟ ولعل هذا الفكر يرفع الردع عن حروب نووية قد تؤدى إلى إبادة عشرات الملايين، ومن المرجح أن يكون اختيار من يضحى بهم على أساس عنصرى وعلى حساب شعوب العالم الثالث.
ولعلنا فى هذه المرحلة من تاريخ الإنسانية نتذكر قول البحار الشاب الذى تصدى للضابط بقوله إن الإنسانية والشرف تجعل الأقوياء فى حماية الضعفاء، ونتذكر قبل ذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم».