رسالة إلى ولدي.. الدكتور هيكل

عاطف معتمد
عاطف معتمد

آخر تحديث: الثلاثاء 25 فبراير 2025 - 8:59 م بتوقيت القاهرة

رحلتنا اليوم مع كتاب «ولدى» الذى ظهر للنور فى القاهرة عام 1931. ورغم مرور نحو قرن من الزمن على تدوينه فإن تكنيك كتابته يشبه ما يفعله اليوم الكتاب المعاصرون حين يشاركون القراء هموم حياتهم الشخصية عبر وسائط التواصل الاجتماعى.
فالمفكر والسياسى والأديب الكبير د. محمد حسين هيكل يتعرض لتجربة ألم فقد ابنه الذى يبلغ من العمر ست سنوات إثر حمى مفاجئة إصابته فى نهاية عام 1925.
يصمد مؤلفنا أمام آلام الفقد ككل الرجال الأشداء، ويلهيهم العمل العام والمسئولية الحكومية عن الانخراط فى دوامة الحزن، لكن زوجه لا تقوى على ذلك وتعيش حزنًا مضاعفًا.


يقرر هيكل أن الترويح والسفر قد يخفف الآلام عن زوجه، أراد أن يشركها معه فى سفر إلى السودان لافتتاح خزان سنار فى عام 1926 على النيل الأزرق فى السودان.
ثم ينصرف عن الفكرة لأن حزن زوجه فى ذروته. ويعدل خطته إلى وجهة أوروبية يتلمس فيها ما يعرفه من أيام الدراسة فى فرنسا، لا سيما باريس التى درس فيها ثلاث سنوات.
قبل أن ينطلق إلى الرحلة ينقل لنا مؤلفنا شطرًا مهمًا من تراث الحزن والفقد فى المجتمع المصرى، ولو قارنه الناس اليوم لعجبوا منه عجبًا.
ففى تلك السنوات كان الناس يفقدون عقولهم لفقد حبيب، ومنهم من يموت فى إثر الفقيد، وغير ذلك من تراث عريق للحزن والفقد والموت فى حياة عامرة بفيض علاقات اجتماعية مقدسة.
إنقاذًا لحياتها من آلام الفقد، يأخذ الزوج الثرى المرموق زوجه فى رحلة لمدة ثلاثة أشهر إلى أوروبا.
تنطلق رحلة الزوجين على باخرة أوروبية من بورسعيد متجهة إلى فرنسا فتمر قبالة جزيرة كريت، ثم تخترق المضيق الشهير «مسينا» بين صقلية وإيطاليا، وينقل لنا المؤلف مشاهد من البيئة الطبيعية وثورات البراكين المدهشة التى تلمع نيرانها فى الليل.
تصل الباخرة إلى مارسيليا فنتعرف على شطر منها من توثيق المؤلف لوقائع الأحداث اليومية، ثم ينطلقان فى رحلة بالقطار إلى باريس مرورًا بـ«ليون».
وفى الطريق يستفيض المؤلف فى وصف ما أسماه «جنات الله» على الأرض.
فى القطار يتعرف المؤلف وزوجه على سيدة تثير شكوكه، قدمت نفسها باعتبارها الكاتبة الفرنسية الشهيرة مارسيل تنير، صاحبة الأعمال الأدبية المتعددة، والتى قرأ لها مؤلفنا بعضًا من أعمالها.
يندهش المؤلف لأن الكاتبة الشهيرة فى العالم الحقيقى لا تشبه صورتها التى رسمها عنها فى الخيال، فليس فيها من الذكاء شىء، بل تبدو أقل فطنة مما يتوقعه المرء حين يقرأ لها.
يعاود المؤلف تصويب نفسه فيقول، ألم يكن جان جاك روسو على هذه الحالة؟ بل إن مؤلفنا يستشهد بعلاقته الشخصية بأحمد شوقى فيقول إنه حين يناقشه فى ألوان من الشعر العربى والأوروبى يتسرب إليه شك فى أن شوقى ملم بأى منهما!
ينتهى مؤلفنا إلى أن للمبدعين حالًا من الأسرار تتنزل عليهم فيه الأفكار والمعان والإبداعات حين يكونون فى خلوة مع أنفسهم، لأنهم فى حياتهم بين الناس لا يبدو منهم أية علامات للنبوغ والتفرد أو الحضور والبديهة.
يفرق المؤلف بين الكاتب الذى نقرأ له وسلوكه فى الحياة الواقعية ويدعونا إلى عدم الخلط بينهما.
يصل الزوجان إلى باريس وقبيل الهبوط تحذر الكاتبة الفرنسية زوج مؤلفنا بألا تقع فى الخطأ الشهير الذى يظنه الناس من أن باريس مدينة من ألف ليلة وليلة، مبانيها طوبة من ذهب وأخرى من فضة. ذلك لأن باريس مثلها مثل القاهرة، فيها أحياء فقيرة أيضًا، وهى تبدو مدينة عادية لمن لا يعرفها جيدًا، ومعرفتها تحتاج وقتًا طويلًا.
يؤكد محمد حسين هيكل على كلام الكاتبة الفرنسية، ويقول لنا إن تجربة حياته فى باريس ثلاث سنوات أقنعته بأن روعة باريس ليست فى المدينة بل فى «روح باريس».
نحن هنا ما زلنا فى صفحة 30 من الكتاب، وقد استطاع مؤلفنا أن يمسك بالقارئ من أربع جهات:
- تعاطف إنسانى صادق مع آلام الفقد.
- روعة البيان وسحره وبلاغة اللفظ والمعنى والقاموس اللغوى المحيط.
- حيوية الانتقال من فكرة لأخرى ومن مكان لآخر بشكل هادئ وسلس.
- كتابة إنسانية خالية من التعالى أو التفاضل الطبقى بين الكاتب والقارئ.
وبينما نقرأ كتاب هيكل نتذكر أن آلاف المصريين قد تلقوا تعليمهم العالى فى عدة عواصم أوروبية، ربما عشرات الآلاف. لكن قليلًا منهم كتب عن تجربته. إذ احتفظ كثيرون بذكريات شفهية خبت برحيل صاحبها أو سقطت فى بئر عميقة فى الذاكرة الآخذة فى الوهن بمرور العمر.
ثلة ممن درسوا فى هذه العواصم كانوا مفتونين بها لدرجة الهزيمة والتلاشى، حتى أنهم تهكموا -من طرف خفى- على الوطن وسخروا من مآله.
وثلة أخرى كانوا مشحونين بعواطف الدين أو القومية لدرجة إنكار المقارنة والتغافل عنها، ولسان حالهم يقول إن فى تراثنا الدينى والقومى ما يفوق أى حضارة أخرى، وإن أى ثراء فى مدن الغرب إنما تم سرقته من شعوب الجنوب الفقير فى العصر الاستعمارى.
لكن فى عام 1926 حين زار محمد حسين هيكل باريس - ليهون على زوجه آلام فقد صغيرهما الوحيد- لم يكن واقعا فى أسر أى من الخيارين السابقين.
لقد جاء مؤلفنا ليجدد وصله بالمدينة التى درس فيها الحقوق ثلاث سنوات، وها هو يعود إليها مجددا بعد غياب 14 عاما.
يأخذنا المؤلف فى جولة فى محاسن باريس وعمارتها وهندستها الحضرية ومسارحها وشوارعها التاريخية. يمر بنا على الجامعة التى درس فيها فيستحضر من الذاكرة أسماء الأساتذة الذين تعلم على يديهم، راسمًا صورة أسطورية لأستاذ الجامعة بعلمه ومهابة هيئته الفخيمة.
وبعد صفحات طويلة شيقة فى وصف المسرحيات المعروضة، والأبنية المعمارية، والمسلة المصرية التى انتزعت من الأقصر لتقف هنا فى أرض غريبة، ينتهى بنا المؤلف إلى أن فى باريس قطبين جاذبين نابضين للحياة:
- القطب الروحى المعمارى والفنى والتراثى والمسرحى والأدبى.
- القطب العقلى فى الحى اللايتينى حيث «السوربون» والـ«كوليج دو فرانس».
لا تكتمل ثنائية تكوين الروح والعقل فى باريس من دون الخروج إلى الحدائق والغابات المحيطة بالمدينة التى تمثل الرئة التى يهرع إليها الناس لتجديد النشاط والاستمتاع بالطبيعة من شجر ونهر وهواء نقى وحيوانات برية وطيور صادحة فى الأفق.
يدهشك هنا أن مؤلفنا يقف فى كثير من الأحيان عاجزا أن يجد فى اللغة ما يعبر عما يريد كتابته من تأثره بالإبداع الذى يرى. وكأن اللغة ما تزال عاجزة من أيام ابن بطوطة قبل قرون بعيدة حين كان رحالتنا المغربى يشكو اللغة، لأنها عاجزة عن نقل ما يرى من عجائب الهند وملوك القبيلة الذهبية فى آسيا الوسطى وأبهة الحكام المسلمين فى شبه جزيرة القرم.
من هنا فى باريس، فى الثلث الأول من القرن العشرين، ينتقل مؤلفنا وزوجه إلى زيارة لندن فتبدو المفارقة كبيرة بين ما يكتبه عنها مقارنة بباريس.
مؤلفنا هنا زائر يستقى معلوماته من الأصدقاء أو مما قرأ من معلومات فى بطون الكتب.
تبدو عبقرية محمد حسين هيكل التى أدهشتنا فى باريس متواضعة هنا فى لندن. ونتأكد معه أن العبقرية لا تولد فى الكتابة من تلقاء نفسها بل هى ابنة التجربة والمعرفة والخبرة.
يلجأ هيكل لتعويض خبراته المعدومة عن لندن بوصف الشخصية البريطانية مبديًا إعجابه بما لدى الإنجليزى من عزم وإصرار وحب الحياة.
يضرب لنا مثلًا بنقطة مصرية فى السلوم مر عليها الناس، وكانت تحت إمرة ضابط مصرى، فلاحظوا ما فيها من جفاف وتصحر وعرى وقحط. وبعد فترة ولأسباب الصراع مع إيطاليا فى الحرب الكبرى (الاسم الذى كان تسمى به الحرب العالمية الأولى) أصبحت النقطة الحدودية فى السلوم تحت إمرة ضابط إنجليزى.
ورغم أن هذا الضابط الإنجليزى جاء هنا فى غير بلده، ولا يعرف كم سيمضى من الوقت، فإنه أحالها إلى قطعة من الجمال، فزرع فيها الشجيرات والأزاهير ونسقها ونظمها حتى باتت تلفت انتباه كل عابر ومسافر ليبدى إعجابه بهذه النقطة الحدودية البهية وضابطها الجديد المحب للحياة.
يمضى هيكل فيقارن بين الشخصية الفرنسية والإنجليزية، وبكل حصافة وأدب ورقى لا يضع المصرى أو العربى فى أى مقارنة، بل يترك للقارئ استلهام الفكرة من بين السطور.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved