صورة على شاطئ أوستيا

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 25 فبراير 2025 - 6:50 م بتوقيت القاهرة

وقعت على هذه الصورة بينما كنت أبحث بين أوراق حياتى عن صور يستفيد بها المحرر المكلف بإعداد ونشر مخطوطة عن علاقتى بالصحافة يعدونها للنشر. لم تكن مهمتى فى البحث بسيطة فالصور بالمئات وربما بالآلاف مبعثرة فى أكوام من أوراق لا يربطها ببعضها عمر أو مرحلة أو مهنة بعينها. أعترف أننى لم أحسن التدرب على ترتيب أوراقى ناهيك عن توثيقها وحفظها رغم أننى بدأت حياتى العملية فى حوالى السابعة عشرة من عمرى «صبى مكتبة» حسب التوصيف الأمريكى لوظيفة هى فى الواقع أقل درجة من وظيفة المتدرب فى مهنة أمناء المكتبات العامة.
أما الصورة فهى لرجل أسمر حلوة تقاطيعه يجلس مع طفلين بديعين ككل الأطفال فى عمرهما فى أكثر الصور الفوتوغرافية. أحد الطفلين أسمر سمرة الرجل الجالس بينهما والطفل الآخر أبيض بلون من وقف ليصورهم وجميعهم بثياب الاستحمام ووراءهم البحر لا يشغلهم وجوده عن الاستمتاع بأجواء المصيف وصحبة المصيفين وتبادل إشارات التعاطف والمودة معهم.
• • •
بدا لى أثناء البحث أن صورا أخرى عديدة لا شك التقطتها وضاعت. الغريب فى الأمر أن عملية التصوير وقد مضى عليها ما يزيد على 63 عاما وبآلة تصوير تقليدية جعلت الصورة الصماء تتحول فى يدى وفى نظرى إلى ما يشبه فيلم سينمائى يحكى نتفا من قصص عديدة وفريدة بشخوصها ومواقعها. هذه النتف وربما بعض القصص كم تمنيت أن أحكيها على مشاهدى الصورة كما وقعت أو بتعديل بسيط إن دعت الضرورة أو إن فرض الغموض مشيئته علينا، كنا مؤلفين أم محررين أم حكائين.
• • •
الشاب فى الصورة سودانى العائلة يعمل بوزارة الخارجية سائقا وانتدب ليعمل بالسفارة المصرية فى روما. طلبت منه أن يخصص لى يوما من أيام إجازاته ليصحبنى وإبنى ومعنا إبنه إلى الشاطئ الأقرب إلى مدينة روما والمعروف بشاطئ «أوستيا» نسبة إلى الضاحية التى تحتضن هذا الشاطئ الرملى الرائع. كان الطقس بديعا على عكس الطقس الذى تركناه فى العاصمة.
• • •
لاحظت من اللحظة الأولى لنا على الشاطئ أن حركة غير عادية تحيط بموقعنا الذى اخترناه منعزلاً بعض الشىء. كثيرات من المصيفات تقدمن لتحيتنا دون معرفة مسبقة بى وأنا الحديث وصولا إلى إيطاليا. تعمدن التوقف أمام السائق والتحدث معه بالإيطالية التى لم أكن أمسكت بعد بمفاتيحها. لم أشأ التدخل كعادتى المفرغة من نعمة الفضول ولكنه تطوع بعد قليل بإبلاغى أنه بدأ مهمته، فى هذه المدينة الخالدة بحق، شابا أعزب ومنذ وصوله شاءت الظروف أن يتعرف على فتيات إيطاليات كثيرات.
• • •
قيل لى أن كبير السعاة، وجميعهم فى ذلك الوقت سودانيون بالنشأة أو نوبيون مصريون بالتنشئة، نصح السائق بعد عامين من العمل بالسفارة أن يطلب إجازة ويسافر إلى السودان وأن لا يعود إلا وقد عقد على إحدى قريباته. يعود وهى معه فالآخرون يتزوجون ويتركون زوجاتهم فى السودان أو فى بلاد النوبة. استفسرت من هذا الكبير وكان يحظى باحترامنا ليس فقط لأنه الأقدم فى السفارة والأكثر دراية بروما وطبائع أهلها وخفاياها ولكن أيضا لأنه كان بالنسبة لنا، نحن شباب الدبلوماسيين بالسفارة، الناصح الأمين فى بعض شئوننا ومشاكلنا. استفسرت فقال «نعم أعدته إلى العائلة ليتزوج حماية له وللسفارة من عواقب عزوبيته فى مدينة وفى طبقة وفى مرحلة اختصته جميعها وأشهرته بكونه الشاب المصرى الأسمر والأكثر وسامة وجاذبية لمعشر الجنس الآخر فى روما».
استطرد قائلا: «لم أتحرك إلا بعد أن أبلغتنى سكرتيرة السفارة ثم سكرتيرة السفير أن ممثلات من المشاهير الذين أفرزتهم المرحلة، مرحلة الحياة الحلوة، ممتزجة بالمعجزة الاقتصادية الإيطالية، يتصلن بإلحاح إذا هو تأخر فى الرد على مكالماتهن أو حاول التفلت من ملاحقاتهن. خفت المطاردات قليلا بعد زواجه أو أنه صار، وصارت المعجبات، أكثر حرصا».
يقول السائق الشاب أن المطاردات خفت، أما أنا، كاتب هذه السطور، فأقول إنه على امتداد ثلاث سنوات قضيتها فى روما بعد واقعة الرحلة مع السائق والطفلين فى شاطئ أوستيا لم يتوقف الأصدقاء الإيطاليون والزملاء الدبلوماسيون الأجانب عن السؤال عن «ش» السائق الأشهر فى مجتمع السلك الدبلوماسى إن غاب عنهم لتوعك أو زحمة عمل أو لسفر خارج المدينة.
• • •
كانت بالفعل السفارة الأكثر شعبية بين قريناتها من سفارات مصر بالعالم بأسره. ليس فيما أقر هنا مبالغة مقصودة أو تفخيم متعمد. صحيح كان «ش» سببا فى هذه الشهرة ولكنه لم يكن السبب الوحيد. كانت السفارة المصرية موضوع حسد عديد الدبلوماسيين الأجانب، لوقوعها فى قلب غابة هائلة الاتساع فى قلب روما وعلى الطريق الدولى الرئيس الذى كان يربط بين العاصمة والموانئ الجنوبية المطلة على البحر الأدرياتيكى منذ قدم التاريخ يحمل لها الملح ومنه اشتق الطريق اسم «سالاريا». السبب الثانى وراء شعبية سفارتنا أننا كنا نحتل قصر آخر ملوك أسرة سافويا التى حكمت إيطاليا حتى هزيمتها فى نهاية الحرب العالمية الثانية. هناك سبب ثالث ولا يقل أهمية، وهو الشعبية الفائقة التى كان يتمتع بها طباخ السفارة، على الأقل خلال مرحلة وجودنا فيها والمتوج فى أوساط الدبلوماسية ومواقع صنع القرار فى روما ملكا متوجا على عرش الطباخين فى روما حتى انتزعته منها سفارة مصر فى موسكو عندما تولى أمرها سفير قوى النفوذ منتهزا فرصة أتاحتها فترة انتقالية فى روما بين سفير نقل وسفير لم يصل.
• • •
فكرت فى كل هذه الأمور وأنا أجلس إلى مكتبى بضاحية الشيخ زايد أنظر إلى صورة فوتوغرافية من مقتنياتى ظهر فيها السائق «ش» المبرز فى وسامته وإجادته الإيطالية ودماثة أخلاقه ومعه طفلان، ابنه وابنى، وهم معى يستجمون على شاطئ قريب من روما قبل أكثر من ستين عاما.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved