مالى.. تأملات فى زمن الانقلاب


علاء عبدالعزيز

آخر تحديث: الإثنين 26 مارس 2012 - 9:32 ص بتوقيت القاهرة

(1)

 

سبعينى متهالك جاء إلى الفندق ليقضى شهر العسل مع عروسه الشابة، أراد لعرسه أن يتواكب مع عيد الربيع، وفى ساعات العسل الأولى فاجأته أخبار تمرد عسكرى سرعان ما تحول إلى انقلاب اطاح بالرئيس المنتخب، أدهشنى حزنه فتساءلت: ألا يفتح التغيير دوما طاقات من الأمل؟ علق باسما: علمتنا خمسة عقود بعد الاستقلال أن العسكر كانوا دوما ــ ومازالوا ــ جزءا من المشكلة لا طريقا للحل.

 

(2)

 

عبر شرفات الفندق فى الطابق الثانى عشر وقفنا نتأمل تبادلا لإطلاق النار بين أفراد الحرس الجمهورى وعناصر الوحدات المتمردة، لاحظ شغفى فنبهنى: تأمل موقع قدميك قبل أن تنظر أمامك، هذا الفندق الذى تسكنه شيدته شركة مقاولات حكومية مصرية وأهدته ثورة يوليو لمالى بمناسبة استقلاله، لو كان هدفكم بناء علاقة مع الشعب لأهديتموه مدرسة أو مستشفى، لكن «ناصر» لم يكن يرى فى شعبنا الفقير إلا «الرئيس» فأمر شركة المقاولات بأن تكون الهدية قصرا للرئيس وفندقا لضيوفه. تنهد ثم أضاف: علمتنا خمسة عقود بعد الاستقلال أن سياستكم تجاهنا قصيرة النظر.

 

(3)

 

أردت مشاكسته فقلت: معظم قادة الانقلاب فى العشرينات والثلاثينات من عمرهم، تفصلك عنهم فجوة جيلية ربما لا تمكنك من تفهم دوافعهم. أشعل سيجارة ثم قال: أول انقلاب عرفناه جرت وقائعه فى عام 1968 وتزعمه ملازم لم يكن قد بلغ الثانية والثلاثين، لم تمنعه سنه الشابة من الرد بعنف مفرط على احتجاجات طلابية للمطالبة بالديمقراطية لم تتوقف طوال حكمه، تماما كما لم تمنعه البيئة الفقيرة التى نشأ فيها من تطبيق الوصفة الاقتصادية لصندوق النقد الدولى التى جعلت أكثر من نصف سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر. ضغظ على الحروف وهو يؤكد: علمتنا خمسة عقود بعد الاستقلال أن القمع السياسى والافقار الاقتصادى لا علاقة لهما بعمر الحكام بل بانحيازاتهم وطبيعة ولاءاتهم.

 

(4)

 

قررت أن أواصل المشاكسة فسألته: ألم تصنعوا ثورة شعبية عظيمة قبل عقدين، كيف أضعتموها؟ أجابنى بنبرة اعتزاز: فى عام 1991 عمت البلاد اضرابات عمالية ومظاهرات طلابية احتجاجا على استشراء الفساد الذى زاد النخبة ثراء على حساب ملايين المعدمين، فما كان من الرئيس الا أن أمر جيشه بقتل كل عامل يضرب وكل طالب يحتج، انصاع الجنود وقتلوا ثلاثمائة عامل وطالب فى يومين اثنين، فاستدعت الدماء الطاهرة ثورة شعبية أطاحت برأس النظام فى اليوم الثالث، وفى اليوم الرابع استفاق الماليون على مقدم فى سلاح المظلات يهبط على كرسى الحكم من حيث لم يعلموا. استطرد بأسى: علمتنا خمسة عقود بعد الاستقلال أن الثورة والتضحية من أقدار الشعوب والسلطة والربح من نصيب العسكر.

 

(5)

 

صارحته بأننى لم أفهم المغزى من توقيت الانقلاب، فلو كان الهدف يتمثل فى التخلص من رئيس يرونه مقصرا فى الوفاء باحتياجات القوات المسلحة من السلاح والذخيرة لتمكينهم من التصدى لهجمات متمردى الطوارق فى شمال البلاد، فالرجل أعلن التزامه ترك السلطة مع نهاية فترته الرئاسية الثانية والأخيرة فى شهر ابريل القادم حسبما يقضى الدستور، أما لو كان الهدف القضاء على سيطرة «التحالف من أجل الديمقراطية والتقدم» على 70% من مقاعد البرلمان، فالانتخابات التشريعية أيضا كانت مقررة فى الأول من يوليو المقبل، فيم العجلة إذن؟ امتلأ وجهه بابتسامة عريضة وقال: ليس الهدف التخلص من رئيس مقصر أو برلمان لا يستهويهم، بل تفكيك أواصر الدولة المدنية بدستورها وبرلمانها وقضائها... يريدون للمؤسسة العسكرية نصيب الأسد من كعكة لا تسد رمق بعوضة.

 

(6)

 

لكن ماذا عن الدنيا حولكم؟ لا تبدو السعادة على وجه واشنطن أو باريس إزاء الانقلاب، والبنك الدولى أعلن وقف مساعداته، حتى الاتحاد الأفريقى والجماعة الاقتصادية لبلدان غرب أفريقيا ومنظمة التعاون الإسلامى نددت جميعها بالانقلاب على الشرعية... الى أين تسيرون؟ تأمل لحظات فى مبنى التليفزيون الحكومى المواجه للفندق الذى كانت سيطرة المتمردين عليه أهم وأسبق من اقتحامهم القصر الرئاسى، ثم قال: باطن أراضينا لا يحوى نفطا ولا يورانيوم، لكن سطحها يتسع لنشاطات جماعات مسلحة يسمونها «تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب العربى» وهذا مكمن اهتمام الغرب بمالى وجوارها، فقد تجمعت لديهم معلومات تفيد بأن هذا التنظيم استفاد من أحداث الثورة الليبية فصار يمتلك تسليحا أكثر وأرقى، والمطلوب الآن أن يكون فى باماكو نظام حاكم يلعب دورا ويسمح بأدوار لغيره بما يؤدى إلى توجيه ضربة لهذا التنظيم فى منطقة الصحراء تحول دون تطلعه لتنفيذ عمليات خارجها. نظر العجوز إلىّ مطولا وأردف: يا بنى.. علمتنا خمسة عقود بعد الاستقلال أن استقلالنا ذاته مازالت تخيم عليه الغيوم وتحوطه الشكوك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved