البابا شنودة.. موسوعة المعارف والقيم الراقية

نبيل عمرو
نبيل عمرو

آخر تحديث: الإثنين 26 مارس 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

فى آخر لقاء معه، وكان البابا شنودة الثالث، عائدا لتوه من رحلة علاج طويلة.. سألته كيف الوضع الآن..؟ ضحك. وكأنه أحب تذكيرى بعمره الذى جاوز الخامسة والثمانين آنذاك، وقال: «أحسن من مافيش».

 

خرجت من مجلسه.. ومر فى خاطرى ذلك المشهد الذى سيكون فيما بعد مشهدا خلاصته تضافر المرض مع السن.. وهو الموت الجليل.

 

●●●

 

قرأت الكثير عنه، وكنت من متابعى أخباره ومقابلاته ومحاضراته، كنت ومثلى الملايين مهتمين بهذا الصنف النادر من الرجال، غير أن الاهتمام بالرجل من خلال ما تقرأ عنه، يختلف كثيرا عن اهتمامك به بعد لقائه وجها لوجه، فإننا شخصيا كنت واحدا من الذين وقعوا فى أسر جاذبيته الاستثنائية وسحر شخصيته النادرة المميزة.

 

●●●

 

وقع اللقاء الأول فى الكاتدرائية، فى صحبة الرئيس الراحل ياسر عرفات، كان الأنبا شنودة واحدا من الثوابت الراسخة فى رواية عرفات عن تاريخه وقيمه، كان يقول لنا: خدمت معه فى الجيش وصادقته وأحرص على لقائه كلما استطعت إلى ذلك سبيلا.

 

لم يكن لقاء عرفات بقداسته كأى لقاء يجمع قمة روحية مع قمة سياسية، وإنما كان لوحة إبداعية أخّاذة، فيها حديث سلس عن الذكريات.. ولقطات شيقة عن الأشياء الجميلة المشتركة بينهما، واجتهاد سياسى على أرفع مستوى، كانت قضية مقاطعة قداسته لزيارة فلسطين وفتواه بعدم زيارة الأقباط لها موضع جدل فى كل الأوساط، ولكى ينهى الجدل بصورة قاطعة قال لعرفات.. عنوان فلسطين هو القدس ولن أدخلها إلا معك.. وأضاف ضاحكا «يعنى زى ما بنقول فى مصر رجلى على رجلك».

 

وفى ذلك اللقاء ملأنا قداسته بالبهجة والألفة، والثقة بأن هناك رجلا قويا يحتضن عذابنا ويشعر به، وقع مشهد طريف ومعبر هو الآتى:

 

عرف عن ياسر عرفات، انه يمشى سريعا كما لو انه يركض، وكنا ونحن فى نصف عمره نجاهد كثيرا للحاق به والمشى معه، دخل القاعة التى كان قداسته ينتظره فيها بينما تخلف عن الركب احد القادة الفلسطينيين بسبب سرعة عرفات وألم فى ساق زميله.

 

احتضن الصديقان بعضهما البعض بحرارة، واقتاد قداسة البابا عرفات إلى صالونه الخاص واكراما لصديقه جلس إلى جواره على مقعد مماثل تاركا المقعد المميز الذى تزينه إشارة الصليب فارغا، بعد دقائق وصل القائد الفلسطينى المتأخر، كانت المقاعد جميعا قد امتلأت عدا مقعد البابا المميز.. لم ينتبه القائد المتأخر وألقى بنفسه على المقعد الخالى، وسط دهشة عرفات واستنكاره.

 

نهر عرفات زميله وأمره بمغادرة المقعد، ضحك قداسة البابا.. وقال: «سيبه يا أبوعمار، خليه مستريح» رد أبوعمار: «مايصحش قداستك ما يصحش يقعد على الكرسى بتاعك».

 

قال الأنبا: «ما تزعلش يا راجل، ده احنا مقعدينكم فى قلوبنا حندايق لما تقعدوا على كراسينا».

 

تحول الموقف كله، بدا كما لو أن نسمة هادئة جميلة رقيقة لامست قلوب الجميع حتى إن أعين بعضنا اغرورقت بالدموع.

 

●●●

 

هل انصف الرجل لو قلت إنه كان موسوعة من القيم الراقية والمعرفة المميزة، كان واحدا من رجالات العصر، الذى انصهرت فى وعيهم وسلوكهم أفضل وأرقى القيم الإنسانية لتولد طاقة استثنائية على الحب والتسامح والقيادة..

 

وحين استخدم مفردة القيادة، فلأننى على يقين من أن الرجل الذى عبرت على حياته كل الأهوال التى نعيش خلاصاتها الآن، ونجح فى أن يعالجها بأكبر قدر من الإنجاز وأقل قدر من الخسارة، لن يكون فى سير عظماء التاريخ مجرد رجل دين مميز كما هو أساسا.. وإنما رجل سياسة وقيادة واستراتيجية، لم يكن يتخذ مواقفه من الأحداث العاصفة، إلا وفق نظريات راسخة يعتنقها ويلتزم بها، كان يعرف جيدا وهو العربى الصميم ـ شيخ العرب ـ حدود ما هو مسموح وما هو ممنوع، فكان الأكثر دقة وتوازنا فى مواجهة التقلبات السياسية وما أكثرها فى عالمنا العربى، وحين كان يقف على أعلى المنابر السياسية والفكرية والدينية فى العالم، لم تكن لتأخذه الأمكنة ومتطلباتها بعيدا عن قناعاته ورسالته التى يؤمن بها،

 

لم ينس قضايا بلده الحبيبة مصر

 

ولم تغب فلسطين عن طروحاته

 

ولم ينس أى قضية يعانى منها أى عربى فى أى مكان، هل ننصفه أم ننصف أنفسنا لو قلنا.. إنه كان بابا العرب والمسلمين على السواء.

 

●●●

 

من أين ومتى نحظى بمثله، صحيح أن مصر «ولّادة» وبلاد العرب كذلك إلا أن الصحيح أكثر أنه فى التاريخ قامات لا تضاهى وعقول لا تتكرر ومدارس قيادة فيها من الإبداع ما يجعل من المستحيل تقليدها أو تجاوزها.

 

من هذا النوع كان الأنبا شنودة صاحب نظرات الصقر حين يتحدث عن ظلم يصيب بنى جلدته العرب، وصاحب النظرات الهادئة الحنونة حين يتحدث عن شأن يتطلب مسامحة وغفرانا وتعاطفا. كان حضوره الطاغى وتأثيره العميق بفعل تكامل شخصيته وثقته الممتلئة بقدراته ومعرفته ومكانته، لهذا كان يستخدم النكتة فى محلها وآية القران والإنجيل كذلك، وأبيات الشعر ومقاطع من الروايات والكتب كل ذلك فى منظومة متناسقة من العرض الشيق والمؤثر للفكرة والهدف.

 

كفلسطينى.. أقول وليس للمناسبة أى تأثير على.. كان أبا روحيا للحالة الفلسطينية بكل آلامها وأحلامها، ورسولا لها حيث استطاع منطقه وتأثيره أن يصل.

 

وكعربى.. لا أنسى أمنياته فى العام الجديد حين تمنى للعراق وفلسطين السلام والعدل.. مقدما هذه الأمنيات على كل الأمنيات الأخرى.

 

وكمسلم. يسكن قلبى وعقلى حب وإعجاب برجل يعتبر الإسلام ثقافة أمته كما المسيحية جذر من جذور ثقافة المسلمين.

 

وكإنسان أجد نفسى مرة أخرى أطرح السؤال.. يا ترى متى نحظى بمثله مرة أخرى؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved