صدر منذ ما يقرب من عشرة أيام تقرير عن الأمم المتحدة بعنوان «الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطينى ومسألة الفصل العنصرى». من بين الإدارات التابعة للأمين العام للأمم المتحدة، صدر التقرير عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربى آسيا (الإسكوا) تحديدا.
بمجرد صدور التقرير قامت الدنيا ولم تقعد. احتجت الولايات المتحدة لدى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش وطالبته بسحب التقرير، فأصدر هو تعليماته إلى الأمينة التنفيذية للإسكوا، ريما خلف، بأن تسحب التقرير، ففعلت ولكنها قرنت سحب التقرير بتقديم استقالتها.
فى رسالتها الأنيقة التى قدمت بها استقالتها، قالت ريما خلف ما معناه إن التقرير احترم القواعد المنهجية فى البحث وأن البيِّنة على ممارسات الفصل العنصرى بحق الشعب الفلسطينى الذى يجئ بها التقرير واضحة تماما. أشارت ريما خلف فى رسالتها أن هذه هى المرة الثانية خلال شهر واحد التى يطلب منها الأمين العام سحب تقرير للإسكوا، وهى كانت تعنى بذلك سحب تقرير عن العدالة الاجتماعية فى المنطقة العربية لم يرق لبعض الدول العربية الأعضاء فى الإسكوا ما ورد فيه عن اختلال العدالة الاجتماعية فيها، فطالبت جوتيريش بأن يسحب التقرير. تخلل أغلب الرسالة التى وجهتها للأمين العام تعبير ريما خلف عن احترامها لمواقفه الشخصية الإنسانية والسياسية، وعن أنها تدرك الضغوط التى تعرض لها والتى جعلته يطالبها بسحب التقرير. وقالت ريما خلف: إنها تدرك كذلك أن فترتها كأمينة تنفيذية للإسكوا لم يتبق منها، عند كتابة الرسالة، إلا أسبوعين اثنين، ومع ذلك فإنها تتقدم باستقالتها فيما بدا احتجاجا على إبطال المفعول الرسمى لعملها.
التقرير صادر عن الإسكوا، وهى ليست مؤلفته، ومع ذلك فهو جدير بأن يطلق عليه «تقرير ريما». هذا التقرير، والمطالبة بسحبه، ثم سحبه يثير عددا من المسائل نختار منها ثلاثا متداخلة نتناولها بالتحليل.
المسألة الأولى: تتعلق بـ«تقرير ريما» بالذات وبالتقارير الصادرة عن الأمم المتحدة أو أى عن وكالات منظومة الأمم المتحدة وهيئاتها عموما. المسألة الثانية: خاصة بالأمم المتحدة وطبيعتها وتوزيع القوة والنفوذ فيها. أما المسألة الأخيرة: فهى عن حدود عمل أمانة الأمم المتحدة ومحددات دور أمينها العام.
«تقرير ريما» مؤلفاه أمريكيان، واحد منهما أستاذ قانون دولى مرموق هو ريتشارد فولك، ومعه أستاذة علم السياسة فرجينيا تايلى. ريتشارد فولك عانى فى حياته الأكاديمية الطويلة من جراء مواقفه المناصرة للحق والعدل اعتبارا من الستينيات من القرن العشرين وتنديده بالحرب الأمريكية فى فيتنام، ثم وبشكل خاص، كشفه وإدانته لانتهاكات إسرائيل لأحكام كل من القانون الدولى الإنسانى والقانون الدولى لحقوق الإنسان، وللقانون الدولى عموما. فيما بين سنتى 2008 و2014 كان ريتشارد فولك مقررا خاصا للمجلس الدولى لحقوق الإنسان معنيا بحالة حقوق الإنسان فى الأراضى الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967. نتيجة لمواقفه، اعترضت الولايات المتحدة، بلده، على تمديد فترته كمقرر خاص. عملت الولايات المتحدة بما لها من نفوذ على أن يختفى اسم ريتشارد فولك من المجلس الدولى لحقوق الإنسان، وهو من الهيئات التابعة للجمعية العامة، فظهر لها الرجل نفسه فى الإسكوا، وهى بمثابة الأمانة ومن الإدارات التابعة للأمين العام للأمم المتحدة! أما فرجينيا تايلى فهى من علماء السياسة متخصصة فى الدراسات المقارنة للنزاعات العرقية والعنصرية، عملت على هذه الموضوعات فى أمريكا اللاتينية وفى جنوب إفريقيا، وهى لها كتابات عديدة، بما فى ذلك كتابان، عن حقوق الشعب الفلسطينى. المؤلفان كانا متنبهين لما يمكن أن يثيره التقرير من اعتراضات، ولذلك فإنهما رفضا فى تقديمه أى اتهامات «بمنهضة السامية»، وأشارا إلى مرجعيته باعتبارها «اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصرى»، بل إلى الالتزام الواقع على المجتمع الدولى بتسوية النزاع الناشئ عن قرار عصبة الأمم الصادر سنة 1922 بإنشاء الانتداب البريطانى فى فلسطين وما ذكره عن إقامة «وطن قومى يهودى» فيها، وهو النزاع الذى عجزت قرارات الأمم المتحدة عن تسويته.
***
التقرير صادر عن أمانة من أمانات الأمم المتحدة، والأمانة ليست حرة فيما تتخذه من مواقف، على الرغم من انطباع يبدو أحيانا سائدا وهو أن أمانة الأمم المتحدة هى فوق الدول تحكم عليها وعلى تصرفاتها وتحدد لها ما تفعله. الأمانة من وظائفها أن تعمل على تنفيذ القرارات الصادرة عن أجهزة المنظمة الدولية، وحتى فى هذه الوظيفة فهى تصادف العراقيل والصعوبات التى تنشئها الدول الأعضاء غير الراضية عن هذه القرارات. بعبارة أخرى، إن صدر قرار عن جهاز من الأجهزة، وليكن الجمعية العامة، بفعل النفوذ السياسى أو الأغلبية العددية، فإن الدول غير الراضية عنه تنشىء العراقيل فى وجه الأمانة عند تنفيذه وقد يصل بها الأمر إلى مهاجمة الأمانة على «انحيازها» و«عدم مهنيتها» وإلى التنديد بها، وفى حالات عديدة التضييق على أنشطتها وأنشطة مكاتبها الوطنية والإقليمية عندما تنشط فى تنفيذ قرارات أجهزة المنظمة والبرامج التى اعتمدتها. أما عن مواقف الدول من التقارير تحديدا فخذ أمثلة عليها التقارير عن التنمية الإنسانية فى المنطقة العربية التى تأخر صدور بعضها سنوات، وواحد جرى تغيير بعض محتواه، وآخر لم يسمح له بالصدور عن الأمم المتحدة أصلا فصدر عن دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة. فى منظمة دولية عريقة أخرى، تحت ضغط مجموعة من أعضائها امتنعت الأمانة عن نشر تقرير باسمها كان فيه تحليل للوضع الاقتصادى حمل تنبؤا بما يمكن أن يصير إليه الوضع وبآثاره على التشغيل فى العالم. فى هذه الحالة أيضا صدر التحليل ككتاب باسم مؤلفيه وهو ما أضاع على المنظمة المعنية فرصة السبق وتنبيه أعضائها عندما انفجرت الأزمة الاقتصادية العالمية فى سنة 2008!.
محصلة الأمر أن المنظمات الدولية هى منظمات للدول وبالتالى فهى ملك لهذه الدول. تأثير الدول فى هذه المنظمات ونفوذها يتناسب طرديا مع وزنها فى النظام الدولى الأوسع، بجوانبه السياسية والعسكرية والاقتصادية، ومع قواعد العمل فى داخل المنظمات. الوزن الاقتصادى على جانب كبير من الأهمية فعلى أساسه يحسب نصيب كل دولة من موارد المنظمة وعدد الموظفين الذين يجيئون من كل منها. نصيب الولايات المتحدة 22% من ميزانية الأمم المتحدة، تليها اليابان بنحو 10%، والصين بـ9%، ثم ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة. هذا بخلاف الموارد من خارج الميزانية التى تتطوع بتقديمها الدول المصنعة المتقدمة لعمليات حفظ السلام أو لتنفيذ برامج محددة. الموارد تعكس قوة الدول داخل المنظمات واعتماد المنظمات على الدول. المهارة السياسية والدبلوماسية للدول هى فى تعظيم النفوذ والاستفادة من المنظمة، وبما يتعدى مقدار اشتراكاتها أو وزنها فى الاقتصاد العالمى. بخصوص الصراع العربى الإسرائيلى وممارسات إسرائيل بحق الشعب الفلسطينى تحديدا، ربما كان من أهم التعبيرات عن توزيع القوة، وتطوره، فى النظام الدولى الواسع وفى داخل الأمم المتحدة هو حذف الإشارة إلى الصهيونية كشكل من أشكال العنصرية والتفرقة العنصرية الواردة فى قرار الجمعية العامة عن «القضاء على جميع أشكال التفرقة العنصرية» الصادر فى سنة 1975، عندما كان التأثير العربى فى المنظمة الدولية وفى النظام الدولى الأوسع فى أوجه. حذف هذه الإشارة صدر بقرار خاص لنفس الجمعية العامة فى سنة 1991 وهو حذف اشترطته إسرائيل لتشترك فى مؤتمر مدريد للسلام وضغطت الولايات المتحدة من أجله بشدة على عهد الرئيس جورج بوش الأب.
***
ما تقدم هو السياق الذى يجدر النظر من خلاله لقرار جوتيريش بسحب التقرير. خلال السنة التى سبقت انتخابه أمينا عاما، قليلون من كانوا يعتقدون فى حظوظه للفوز بالمنصب، وكان سببهم فى ذلك هو استقلاله فهو ذو خلفية سياسية أولا ثم هو دلل على استقلاله عند ممارسته لمنصب المفوض السامى لشئون اللاجئين، ومعروفة مواقفه المعلنة بشأن قضية اللاجئين السوريين تحديدا وتنديده بقصور التعاون الدولى، من جانب الدول الغنية القادرة عليه تحديدا. فى أول ثلاثة شهور من ممارسته لمنصب الأمين العام، خطت له القوة الأعظم فى النظام الدولى وفى الأمم المتحدة، بوضوح وفجاجة، الحدود التى لا يجب عليه، وعلى أى أمين عام، أن يتخطاها. فى ظل توزيع القوى فى النظام الدولى وفى داخل منظمته. هل كان على جوتيريش أن يتجاهل هذه الخطوط وألا يعبأ بالقوة الأعظم؟ هذا سؤال يستحق هو وما يمكن أن يترتب عليه مقالا منفصلا.
يبقى أن «تقرير ريما» قد صدر وأنه كشف ممارسات الفصل العنصرى فى حق الشعب الفلسطينى ووثقها وندد بها. التقرير نفسه أو أجزاء منه أو حججه ستنشر وتنتشر بشكل أو آخر. والتنديد بممارسات الفصل العنصرى فى فلسطين ليس جديدا. فى سنة 2006، أصدر الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر كتابا عنوانه «فلسطين: السلام وليس الفصل العنصرى».
استنكار الفصل العنصرى فى فلسطين يتعدد على الألسنة وفى الكتابات فى البيئة الدولية المحيطة بالأمم المتحدة. هو سيستمر ويتزايد، وسيكون «تقرير ريما» قد ساهم بقدر وفير فى هذا التزايد، بصرف النظر عن أن الأمم المتحدة، باعتبارها منظمة للدول، قد أنكرته ولم توزعه.
وقف التنديد بالفصل العنصرى له شرط واحد هو أن يتوقف الفصل العنصرى ذاته. على إسرائيل أن تعى ذلك إن كانت لا تريد أن تنفذ إدانة الفصل العنصرى من البيئة المحيطة إلى المنظمة الدولية فى يوم من الأيام. لها عبرة فى ذلك بجنوب إفريقيا العنصرية.