تدويل ضد الوطن والشعب
فوّاز طرابلسى
آخر تحديث:
الخميس 26 أبريل 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
إذا كانت سياسة «الممانعة»، فى وظيفة من وظائفها، قامت على اكتساب موقع وشرعية وقوة خارجية للنظام السورى جرى توظيفها لأغراض السيطرة الداخلية، واذا كان الاستقواء على الداخل بالخارج عن طريق الأدوار العربية والإقليمية والدولية شكل نهجا ثابتا للسلطة السورية الحالية على امتداد أكثر من أربعة عقود على وجودها، يجوز التساؤل الآن، والاجماع قائم على اعتبار أن الأزمة فى «منعطف» جديد: أليس النظام الحالى يكرر سياسة الخورجة هذه، أى يعيد استخدام نهج الاستقواء بالتعريب المدول على معارضة شعبية عارمة، تفرع عنها جناح عسكرى؟ علما بأن المهمة الآن ليست فرض السيطرة وانما اطفاء ثورة وانقاذ نظام؟
●●●
منذ ان كانت الازمة الدموية السورية لم يتردد الحكم فى دمشق مرة فى استدعاء الوساطات الخارجية. بدأ بتوسيط تركيا. وانتقل منها إلى وساطة قَطَرية موجزة تولت الامارة الغازية بسرعة تجييرها إلى الجامعة العربية. وبعد التعثر المبتسر لمهمة المراقبين العرب، استعجلت السعودية وقطر نقل ملف الأزمة إلى الأمم المتحدة. فى الحالات الثلاث المذكورة، شكلت الوساطات أغطية لنهج ثابر عليه النظام فى كسب الوقت وتصوير أزمته على أنها حرب يخوضها ضد مجموعات بدت «تخريبية مسلحة» إلى أن انضوت دعايته فى خط «الحرب الدولية ضد الإرهاب» فصارت الصيغة الرسمية للعدو هو «مجموعات إرهابية مسلحة». طبعا، لم يقتصر الأمر على تصوير الأزمة. عولجت الأزمة عمليا على اعتبارها حربا عسكرية وأمنية تمارس أنواعا دموية شتى من الترهيب والترويع على عشرات الملايين من المدنيين المتظاهرين فى مئات من مواقع الاحتجاج فى طول البلاد وعرضها.
فجأة اكتشفت وزيرة الخارجية الأمريكية أن «تنظيم القاعدة» قد اخترق المعارضة السورية. ومهما تكن الدلالة بعيدة المدى لذاك الاكتشاف فإنه غطى، ولو جزئيا، بدء مرحلة جديدة من الحل العسكرى سميت مرحة «الحسم» كانت ذروتها اقتحام أحياء من مدينة حمص وعمليات كر وفر فى سائر المدن والبلدات والمواقع الخارجة جزئيا أو كليا عن سلطة النظام وقواه العسكرية والأمنية على مدار البلد.
لم يحسم «الحسم» إلى الآن. لكنه فتح المجال أمام مرحلة جديدة من الخورجة تتولاها المؤسسة الدولية حيث أمكن للفيتو الروسى فرض تسوية، أمريكية ــ روسية، تلتقى أقلا عند اولوية وقف اطلاق النار من الطرفين والانسحاب (انسحاب المدرعات خصوصا) من المدن، فى ظل رقابة 300 رقيب دولى خلال مهلة 90 يوما. ومع ان المبادرة تدعو عمليا إلى اطلاق سراح «المعتقلين عشوائيا»، الا ان التباس الصيغة وفقدان آليات الرقابة الفعلية عليها تفقدها اية قيمة عملية.
فى اليوم الثالث عشر من وقف اطلاق النار والثالث على بدء مهمة المراقبين الدوليين، إذ يستعجل المبعوث الدول كوفى انان الانتقال إلى «العملية السلمية»، سجلت بورصة الدم فى سوريا، قبل حلول المغرب من يوم امس، ستين قتيلا نصفهم فى مدنية حماة. وقف اطلاق نار غير مطبق عمليا والانسحابات شكلية. والجيش النظامى مستمر فى استخدام السلاح المدفعى خصوصا على الاحياء المدنية. حتى ان بان كى مون، والرجل الذى يحتاج للا أقل من مائة جثة يومية لينطق، اضطر لادانة «الهجوم الوحشى المروع» الذى تشنه الحكومة السورية ضد شعبها.
●●●
باختصار، لا شىء يشبه قرب الانتقال إلى «العملية السياسية» المنشودة. على أن المبادرة تستدعى هذه الملاحظات.
أولا، تفصل المبادرة بين الامن والسياسة. وهو النهج الدائم للقوى الغربية فى التعاطى مع الثورات العربية جميعها حيث فرض الأمن سابق على البحث فى عوامل الأزمة وأسباب الاحتجاج، أى أسباب اختلال الأمن. التمسك بحكم العسكر فى مصر مثالا. عدا المبادرة الأمريكية الخليجية فى اليمن حيث جرى اهمال كل عوامل الانفجار والقوى المعارضة، باستثناء المعارضة الرسمية، باسم الأمن.
ثانيا، نحن بازاء تدويل منافق يزعم تسليم الأمر للسوريين. «يجب ان يقرر السوريون بأنفسهم مصير سوريا »، تقول الخارجية الروسية. وعلى اللاعبين السياسيين الخارجيين «ان يساعدوا السوريين على بدء الحوار السياسى بهدف إقامة نظام ديمقراطى تعددى». وحقيقة الأمر ان ما يفرض على السوريين نمط من التدويل يساعد أكثر ما يساعد على المحافظة على النظام القائم والأوضاع القائمة.
ثالثا، يتبين ان ما يسمى «البرنامج الإصلاحى الشامل» الذى صاغه النظام هو برنامج مدوَل بامتياز. يستلهم الخارج ويتوجه له، إذ يسعى لأن يبدو منسجما مع رطانة ليبرالية رسمية سنتها ادارة جورج بوش عن التعددية وحقوق الانسان والعمليات الانتخابة.
●●●
هكذا لديك عدم اعتقال الصحفيين. ولكن لا حرية صحافة ولا حرية لتأسيس وسائل الإعلام.
ولديك تعددية حزبية. ولكنها خاضعة للاجازة من السلطة التنفيذية.
وحق التظاهر مصان بشرط الاستحصال على إذن مسبق من وزارة الداخلية.
وثمة قانون انتخاب يكرر القانون السابق ويقسم المرشحين إلى ثلاث فئات تسمح بالتحكم السلطوى والحزبى فيها: عمال وفلاحين ومستقلين.
وفى قمة كل هذه «الإصلاحات» يتربع دستور جرى إقراره بواسطة استفتاء تعترف مصادر النظام قلة الإقبال عليهم، يريدنا نائب وزير الخارجية ان نصدق انه «يعد من الدساتير العصرية فى العالم». إذا كانت عصريته تعنى انه من أواخر الدساتير التى صدرت، فهذا اكيد. اما عن كونه ينطوى على أى إصلاح جاد للنظام القائم فأمر آخر. فجل ما يعد به الشعب السورى هو العودة إلى بيت الطاعة فى ظل نظام سياسى قائم على تعددية سياسية وإعلامية وحزبية مضبوطة فى ظل حاكم فرد مطلق الصلاحيات يجمع السلطات التشريعية والتنفيذية والأمنية والعسكرية إلى كونه غير قابل للمساءلة أو المحاسبة.
وحتى لو وضعنا جانبا ان النظام لم يعترف بالمعارضات السورية على تعددها مع انه يشكوها للقاصى والدانى بأنها لا تريد محاورته، فإن الحوار الفعلى الذى يجريه كناية عن اتصالات مباشرة أو عبر وسطاء مع كتل معارِضة دون سواها وخصوصا مع شخصيات معارضة أو مستقلة يجرى البحث معها بالدرجة الأولى فى تشكيلة وزارية تقطع الطريق عمليا على «الحوار» العتيد.
●●●
هل ان السلطة مستعدة لوضع «برنامج الاصلاح الشامل» هذا موضع حوار على طاولة «الحوار الوطنى»؟ كيف يمكن تصديق ذلك عندما يقرأ المرء ان المصادر الرسمية السورية لاتزال تعتبر ان ثلاثة عشر شهرا دمويا هى نتاج «الهجمة الإعلامية الشرسة التى تتعرض لها سوريا عن طريق بعض القنوات الفضائية التى باعت شرفها المهنى، لتشارك فى سفك دماء السوريين عن طريق اكاذيبها».
ينشر بالاتفاق مع جريدة السفير اللبنانية