«رمضان» الذى كان!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 25 مايو 2018 - 9:05 م
بتوقيت القاهرة
(1)
لجابرييل جارثيا ماركيز، الكاتب الكولومبى «الأسطورة» صاحب الروائع الراحل، والحاصل على نوبل فى الآداب عام 1982، مقولة يمكن اعتبارها بمثابة قانون إنسانى، ناموس بشرى، خلقنا الله عليه، وبه نعيش، يقول:
«الحياة ليست ما يعيشه أحدُنا، وإنما هى ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه».
(2)
كنت فى الخامسة تقريبا، أتذكر ظلالَ أول ظهور لرمضان فى حياتى. نحن فى الصيف، لا يهمنى حر ولا غير حر، يهمنى فقط البهجة المضاعفة التى تغمرنى بحلول هذا الذى يسمونه «رمضان»، مواعيد الأكل وأصنافه، السهر حتى الفجر، شراء فول السحور فى الطبق القعر (وليس فى أكياس مثل الآن)، المسلسل التاريخى «لا إله إلا الله» (أو ربما «محمد رسول الله».. لا أذكر بالدقة!) الذى أشاهده للمرة الأولى وأنا أحبس أنفاسى من الانبهار والدهشة والمتعة!
وكأن القدر لم يرد أن أتمرغ فى نعيم جنة رمضان فقط، بكل ما ذكرت، بل غمرنى ببهجة أخرى لا تُعوض ولا تنسى!
إيطاليا فى العام 1982، البطولة الأولى التى أشهدها لمنافسات كأس العالم، أحب كرة القدم جدا، الخطيب «بيبو» هو أسطورة الكرة المحلية والإفريقية، لا ينازعه أحد، لكن أبطال كأس العالم شىء آخر!
نجوم العالم يلتقون، يتجمعون على استادات الأزورى؛ رومنيجه الألمانى، وبلاتينى الفرنسى، وتيمومى المغربى، وباولو روسى الذى سطع كالشهاب فى مباريات البطولة، والمنتخب الجزائرى الذى أُقصى من الأدوار الأولى بمؤامرة لا أخلاقية بين ألمانيا والنمسا اللذين لعبا على التعادل!
لكن ذلك كله كوم والمنتخب البرازيلى الأسطورة الذى لعب للمجد والشهرة «كوم آخر»، إنهم سحرة البرازيل المهرة يا سادة، نجوم السامبا، أصحاب أحلى وأمتع مهارات كروية فى الدنيا، وأجمل أهداف رأيتها فى حياتى حتى اللحظة.
فى هذه البطولة نصب البرازيليون السيرك، واكتسحوا كل الفرق التى واجهوها بالثلاثة والأربعة، أهداف من كل زاوية وعلى كل شكل ولون باليمنى واليسرى والرأس!.. يا سلام على فريق الأحلام والأساطير بنجومه الكبار: زيكو، وسقراطوس، وفالكاو، وإيدر، وجونيور.. فريق لم يحصل على كأس البطولة فى هذا العام، لكنه لعب للخلود والمجد وكان له ما أراد!
(3)
لماذا هذا الدفق من الذكريات وشلال النوستالجيا المنهمر كالسيل، هل لأنى أصبحت فى الأربعين؟ هل لأن بطولة كأس العالم التى سنشارك فيها بعد غياب 28 عاما على الأبواب (كنت فى الصف الثانى الإعدادى حينما وصل منتخب الجوهرى إلى كأس العالم إيطاليا 1990)؟
هل لأننى ومنذ سنوات ليست قليلة لم أعد أشعر بالبهجة ولا المتعة التى كنت «أتمرمغ» فى نعيمها وهواها حينما يهل علينا رمضان؟ لا تهمنى الإجابة بقدر ما يريحنى طرح السؤال وصياغته بدقة إن كان كذلك فعلا!
أين رمضان الذى كان؟ هل رمضان الذى نلقاه اليوم هو رمضان الذى طالما لقيناه ونحن فى سن الطفولة وسن الشباب؟ إنه شىء آخر ولا شك. كان رمضان يسيطر علينا فأصبحنا نسيطر عليه. كان ينيمنا فى النهار، ويوقظنا فى الليل، فصرنا نوقظه طول النهار وطول الليل. كان نوما وقراءة وصوما، فصار عملا وصوما عند ناس، وعملا بلا صوم عند ناس. وكان مهيبا فصارت هيبته موضع جدال.
(4)
من رمضان لرمضان، عام وراء عام، نكبر وتكبر أيامنا وتتضاءل الأحلام وتذهب انتعاشات الروح التى كانت تهفهف بقدومه، حين كنا صغارا، لا نحمل للدنيا هما ولا نفكر إلا فى حلاوة الصحبة وتمضية الوقت بفرحة وإصرار على البهجة.. نعم، كان الناس يصرون على البهجة رغم كل شىء، رغم الحر والمعاناة والغلاء وكل شىء، لكن هذا الإصرار لم يعد كما كان، لا فى الدرجة ولا فى القدرة.
لكن ورغم سنوات طويلة، تغير فيها كل شىء، كل شىء، ما زالت بقيةٌ من إصرار على البهجة فى نفوس الناس، تقاوم القتامة والآلية والعزلة والواقع الافتراضى، ما زالت بقية من إصرار على البهجة تطل برأسها مع مطلع الشهر الكريم فى تحايا وتهانى ما زالت تُتَبادل، فى أمنيات صادقة حارة تخرج من القلوب وتلهج بها الألسنة ترنو إلى السماء وتبتهل إلى الله إلى أن ينجينا من الشرور والآثام، وأن يمنحنا القدرة على الحب والتواصل.
ولا يكف المرء عن محاولة استدعاء الماضى واستعادته، يود كل امرئٍ أن يخبرك عن حياة بكاملها تركها خلفه، تلك الحياة التى صار مستبعدا منها الآن، أو بالأحرى من المستحيل معايشتها مجددا، لكنها حياة حفرت تاريخها فى القلب والروح إلى آخر العمر..
وكل رمضان وحضراتكم بخير..