«موسم الأوقات العالية»
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 25 مايو 2021 - 8:00 م
بتوقيت القاهرة
أحب كتابة ياسر عبداللطيف وأجد فيها دائما متعة لا تقاوم، فهى كتابة «تسر الناظرين» وتأتى دائما مفتوحة على عوالم متعددة، لا أول لها ولا آخر.
يكتب ياسر عن الأشياء التى يعرفها ويحبها ولا تفلت منه جملة لا يراجعها بدأب عازف كمان متأمل فى النغمة لابد وأن تأتى مضبوطة على نبض القلب ومهما بدت نصوصه مشغولة بالميتافزيقا أو ذهنية منجذبة نحو التأملات، إلا أنه يستطيع أن يمنحها خفة لا متناهية وعذوبة لا تقاوم، تخلصها من أى ثقل لتبقى قريبة من راحة اليد.
يكتب ياسر عن الأشياء التى يعرفها ويحبها ولا تفلت منه جملة لا يراجعها بدأب عازف كمان متأمل فى النغمة لابد وأن تأتى مضبوطة على نبض القلب ومهما بدت نصوصه مشغولة بالميتافزيقا أو ذهنية منجذبة نحو التأملات، إلا أنه يستطيع أن يمنحها خفة لا متناهية وعذوبة لا تقاوم، تخلصها من أى ثقل لتبقى قريبة من راحة اليد.
ومنذ أن تعرفت عليه فى عامنا الجامعى الأول قبل سنوات بعيدة وأنا أنظر له كوريث حقيقى للكاتب العظيم يحيى حقى ولا أظن أننى أعرف من بين مبدعى جيله من هو أوثق صلة بعالم صاحب «كناسة الدكان» ولعله أول من دلنى على مؤلفاته وأرشدنى لها كمن يرشد صاحبه إلى مغارة مليئة بالكنوز.
وأول الكنوز التى يستعملها بوعى مثير، رهانه على الكتابة بلغة سهلة وبسيطة فيها الكثير من التكثيف، والاقتصاد والاستعمال الذكى للغة اليومية وبالتالى الالتفات لما هو مهمل (أنثروبولوجيا)، فبالإضافة لقيمتها الفنية الرفيعة تمثل كتابات حقى مرجعا مهما لفهم المجتمع المصرى وتحولاته فى قرن كامل وتكاد تكون هى أهم متحف للحياة اليومية وبالمثل تعتنى كتابة ياسر عبداللطيف بهذا الجانب بطريقة لافتة للنظر، حيث لا تخلو أبدا من الأحساس بطعم الأشياء ونكهتها ويعرف كيف يفرق بين الزمن الراكد لحد العطن والزمن الراكض فى الذاكرة الذى يبحث عن مثير انفعالى يوقظه.
وتعتمد كتابة ياسر دائما على الاستجابة لهذا المثير الذى يوقظ الكامن دائما، ربما لأن صاحبها يربى داخله «مؤرخ »، يملك عينا راصدة لا تفارقها الدهشةو تستطيع أن تعيد النظر .
يكفى مثلا أن نقرأ نصوصه لنعرف الكثير عن الأشياء التى نستعملها دون أن نهتم بأصلها وفصلها وحياتها المنقضية، بينما يحرص هو على أن يكتب لها شهادات ميلاد تتابع حيواتها بإخلاص نادر.
وفى كتابه الجديد «موسم الأوقات العالية» الصادر عن «كتب خان» تظهر أدلة جديدة على تفرد رؤاه، وتتراكم معرفة عن امتلاكه الأصيل لنبرة سردية يندر ان تتكرر فى قدرتها على إعادة تمثل لحظات ومشاهد، يقاوم تسربها أو غيابها، خصوصا أن بعضها كان فاصلا فى النظر لحياتنا اليومية مثل حادث اغتصاب «فتاة المعادى» أوائل الثمانينيات وتمثل تلك السنوات ركيزة أساسية للسرد فى الكتاب.
يتأمل عبداللطيف حوادث كثيرة جرت فى تلك السنوات وأولها (فتاة المعادى) ويعيد كتابته انطلاقا من منظور متخيل لمسيرة شلة شباب من المعادى القديم كان طموحها أن تقضى ليلة ماجنة لولا أن هذه الليلة اختطفت من شلة أخرى تعيش عند مخر السيل على أطراف طرة وتملك طاقة تمرد طبقى ضد شروط بؤسها الاجتماعى، وبفضل هذا البناء المتخيل يفسر السرد وقائع الحادث الواقعى بالكثير من الابتكار والاعتماد أحيانا على حس أقرب إلى المحاكاة الساخرة، ويقتحم مع القارئ عالم «الكريبتو أنثروبولوجى» أو الشلل التى تحكم عالمها بشفرات سرية وعبر لغة يتم تداولها فى الإطار المغلق وهى سمة تتكرر كذلك فى قصص ياسر كما يتكرر ولعه بتأمل عوالم تعاطى المخدرات بين شرائح عمرية وطبقية مختلفة تجعل من الكتابة مجاز دال بالفعل على موسم الأوقات العالية.
وتطفو مساحة التأسى على الواقع المتدهور وزوال عمران المدينة وتبدل أحوالها لأن ياسر كما أعرفه أحد كبار راوة المدينة وسحرتها المعاصرين.
ولا يمكن النظر إلى عوالمه دون استعارة أدوات من عالم الفن التشكيلى، فأغلب القصص مكتوبة استجابة لنزعة انطباعية واضحة حللها ببراعة الناقد الصديق سمير مندى، وأشار لها الكاتب نفسه فى نص بعنوان «قصص الحب التأثيرية» يستعيد فيه خبرة علاقة جسدية قديمة، أما عالم المجموعة بأكملها فهو يشبه لوحات الكولاج التى يستعمل فيها الفنان خامات مختلفة ليؤكد فى اللوحة الواحدة تراكم أكثر من طبقة لونية بطريقة تكشف قدرته على خلق تكوين متفرد يعكس رؤية للعالم.
واعتقد أن هذا بالضبط ما يريد ياسر عبداللطيف تأكيده فى استعمال أزمنة متعددة وشخوص يوزعها بعناية على مسطح رئيسى عن المدينة التى يعرفه عز المعرفة.
ولا مانع عنده من أن تأتى كتابته مؤطرة بالكثير من الحنين، لكنه يقاوم الشعور بالنوستالجيا، بفضل استعمال السخرية المستبطنة من داخل مفردات هذا العالم المشيد بتمهل مدهش، لا يتناقض مع العدمية التى تميز هذه الكتابة وتحررها من المعانى الكبرى التى يستعملها كفخاخ فى العناوين الفلسفية التى يقدمها للنصوص.