القلب له أحكام
نيفين مسعد
آخر تحديث:
الخميس 25 مايو 2023 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
هرولَت إليه مساعدته الطيبة حاملةً الموبايل وعلى وجهها مزيج من علامات الفخر والإعجاب ودفعَته إليه قائلة في زهو شديد: هيلاري كلينتون بتاعة أمريكا على الموبايل يا دكتور. بهدوئه المعتاد أخذ صاحبنا تليفونه دون تعليق، فقط ارتَسَمَت على وجهه ابتسامة خفيفة ثم انتحى جانبًا وفتَح الخط. بطبيعة الحال لم تكن المكالمة من وزيرة الخارجية الأمريكية الشهيرة هيلاري كلينتون وزوجة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، لكنها كانت من إحدى طالباته السابقات تُدعى هيلاري. والأمر وما فيه أن صاحبنا كان قد نسى اسم عائلة طالبته هيلاري التي اعتادت أن تطمئن على صحته من وقت لآخر حتى بعد تخرّجها من الكلية، ولذلك قرّر أن يضيف لها من بنات أفكاره اسم كلينتون. كان يمكن لصاحبنا أن يضع بجوار اسمها صفة "طالبة" مثلًا كما نفعل جميعًا عند تخزين أسماء معارفنا الجدد فنضيف صفات إلى أسمائهم كي لا ننسى، لكن الأستاذ اختار لقب كلينتون ربما لأن طالبته النجيبة كانت على وشك التقدّم لامتحان وزارة الخارجية ورأى أن هذا اللقب بمثابة الفأل الحسن. وعندما دقّ جرس الموبايل وظهر على شاشته اسم هيلاري كلينتون لم تشّك المعاونة الطيبة ولو للحظة واحدة في أن مخدومها تربطه علاقة وربما تكون علاقة وثيقة أيضًا بوزيرة خارجية أمريكا، ليس فقط لأنه ملء السمع والبصر يكتب في الصحف ويظهر على الفضائيات وله أتباع ومريدون وأصدقاء في مناصب كبيرة، لكن أيضًا لأنها قرأَت الاسم الظاهر على الشاشة بقلبها، وفي قلبها مخزون كبير من الحب والتقدير لصاحب الموبايل. فهل تعرف هذه المعاونة المثقفة مَن هي هيلاري كلينتون؟ بلى تعرفها فهي حاصلة على دبلوم تجارة وتتابع الأخبار، ثم إن المثَل يقول "مِن جاوِر السعيد يسعد"، وهي تجاوِر الأستاذ الكبير من عدة سنين، وعندما تخلو إلى نفسها لن تعجز عن إيجاد تفسير لردّ مخدومها على الدبلوماسية الأمريكية باللغة العربية.
• • •
ذكّرتني هذه الحادثة الطريفة بأخرى مماثلة حدثَت معي شخصيًا من حوالي ثلاثين عامًا عندما أصيب ابني البِكري بكسر في ساقه نتيجة حادث كبير تعرّض له، واحتاج معه إلى تدّخل جراحي. هذا الأمر كما هو متوقّع رجّ بيتنا رجّا لأسباب مفهومة، ولم يكن الأطباء كعادتهم يبلّون ريقنا ويجيبون على أسئلتنا الكثيرة والمتكررة عن تأثير الحادث على الحركة والمشي والانتظام في الدراسة وخلافه، فعلاقة الأطباء بمرضاهم فيما عدا استثناءات قليلة لا تتميّز بالديمقراطية ولا تعترف لهم بالحق في المعرفة. لكن خوفنا كله كان في كوم وخوف والدي رحمة الله عليه كان في كوم آخر تمامًا، فابني هو حفيده الأول وهو أعزّ من الوِلد ثم إنه يشبهه كثيرًا وهو مثله ساخر ويحب الضحك وبينهما حكايات وأسرار ومؤامرات عليّ وعلى أمي، ولذلك يمكن القول ببعض المبالغة إنه منذ ولادة ابني كانت حدود حياة أبي تتحرّك مع تحرّك حدود حركة ابني من مكان لآخر: الفراش الهزّاز أولًا ثم بيت اللعب ثم النادي فالمدرسة، يؤمن بتفرّده وعبقريته مع أنه كان طفلًا عاديًا جدًا يولد مثله ملايين الأطفال حول العالم، لكنه الحب. هكذا وفي غمرة المخاوف والظنون وبينما مشاعر القلق على الحفيد في ذروتها، دقّ جرس التليفون الأرضي في بيتي ولم يكن الموبايل قد ظهر بعد في حياتنا. كان المتحدّث هو أمير متّى زميل ابني في المدرسة يريد أن يطمئن عليه، وبحُبّ الجدّ الذي يتصوّر أن العالَم كله يهتم بأخبار حفيده ويتابع تطوراته الصحيّة أولًا بأول، سمعنا صوت أبي يأتي متهللًا من بعييييد وهو يحمل بشارة الخبر السعيد: يا حمادة… أمير مكّة على التليفون! ولم يلحظ طبعًا أن أمير مكّة يتكلّم اللهجة العامية المصرية كأهلها، وحتى لو لاحظ ذلك فالأرجح أنه كان سيعتبر ذلك نتيجة التأثير الجبّار للحفيد على أمير مكّة.
• • •
آه من تلك المشاعر التي تتلاعب بالأشياء وتُشكّلها على هواها فتصل إلينا كما تشتهيها، وليس كما هي في حقيقة الأمر، وكأنما القلوب تتخفّى خلف عدسات العيون وتأمرها بأن تعكس ما يختلج فيها فتطيع. وفي سلطان القلب على العين قيل كلام كثير، من أول المقولة الأثيرة للفقيه ابن القيّم الجوزية عن أن "العين مرآة القلب"، وحتى الجملة الرائعة للعاشق الأكبر الشاعر أحمد رامي عن أن "اللي يحّب يبان في عينيه"، طبعًا السياقُ التاريخي والاجتماعي مختلف وقصدُ الرجلَين مفهوم أيضًا أنه مختلف، فهذا يحذّر من سحر النظرة وشهوة الحب "فإذا غضّ العبدُ بصرَهُ غضّ القلبُ شهوتَهُ وإرادتَهُ"، وذاك على النقيض يدعو للبوح والإعلان "مادام تحّب بتنكر ليه"، لكن الجوهر في الحالتين واحد وهو أن العين موصولة بالقلب، والأصوب هو أن كل الحواس موصولة بالقلب، لكأن هذا القلب هو الجاذب للحواس المشتتة مثلما أن النور جاذب للفراشات كما في الرواية الأشهر للأديبة أحلام مستغانمي "فوضى الحواس". يجذب القلب إليه الحواس ويكلّف كلًا منها بما يحقق لمشاعره تمامها واكتمالها، فيصير للعطر دور وللنبرة دور وللنظرة دور....، ولأنه كذلك فسيظل هذا القلب هو العاصي الأكبر على محاولات ميكنة الإنسان وقولبته واستنساخه ومسخه، فلكل قلب بصمته التي لا تفارقه، ومن القلوب ما يجد منتهى التعبير عن حبه في هيلاري كلينتون ومنها ما يجد ضالته في شخص أمير مكة.