مؤخر الأتعاب
سيد قاسم المصري
آخر تحديث:
السبت 25 يونيو 2011 - 9:57 ص
بتوقيت القاهرة
على إثر انتهاء حرب الخليج الأولى (غزو العراق للكويت)، وفى أحد أيام العشرة الأواخر من رمضان عام 1991 كنت فى جدة أشارك فى أحد الاجتماعات وإذا بسكرتيرتى تتصل من الرياض لتقول إن الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية يريد أن يلقاك فذهبت للقائه فى منزله الأنيق على شاطئ البحر الأحمر وما إن جلست حتى قال لى: هل اطلعت على العدد الأخير من مجلة المصور فقلت لا فأعطانى المجلة وعلى غلافها صورة للمهندس حسب الله الكفراوى وزير الإسكان فى ذلك الوقت.. وعناوين كلام على لسانه.. استطرد الأمير قائلا: إنه عائد لتوه من مكة حيث استدعاه الملك فهد «رحمه الله»، والذى كان من عادته أن يقضى النصف الثانى من رمضان فى مكة المكرمة متعبدا، وأضاف أنه وجده غاضبا.
بشدة مما قاله الكفراوى فهذا كلام لا يصح أن يصدر من وزير مسئول فى الحكومة وقبل أن أتطرق لما قاله الكفراوى أود أن أعرج على خلفية الموضوع.
بعد إتمام تحرير الكويت.. أخذت الدول التى ساهمت فى التحرير تتسابق للحصول على صفقات إعادة الأعمار. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية على رأس هذه الدول بالطبع، ونالت من الكعكة نصيب الأسد فى شكل عقود وعباءة وعشرين مليار دولار، وفكرت مصر فى أن تدخل هذه الساحة خاصة أن شركات المقاولات المصرية لديها من الخبرات والقدرات ما يمكنها من المنافسة فضلا عن أن بعضها قد نفذ مشروعات قبل ذلك بالكويت.
ومن ناحية دور مصر فى حرب تحرير الكويت فهو لا يقل أهمية عن الدور الأمريكى أو البريطانى.. فقد كانت مصر هى الوجه العربى الذى كان فى أمس الحاجة إليه حيث كانت همهمات التذمر تتصاعد ضد الاستعانة بغير المسلم لقتال المسلم، لذا كان الاهتمام كبيرا بوصول القوات المصرية فور وصوله.. وحظى اللواء بلال قائد هذه القوات بتغطية إعلامية واسعة، كانت القوات المصرية فى «وش المدفع»، كما يقولون وحشد صدام حسين أمامها أهم قواته.. وخاضت معارك شديدة المراس ونفقت نتائج باهرة.. المهم ذهبت مصر.. ومتأخرة كالعادة تحاول على استيحاء أن تنال شيئا من بقايا الكعكة فتشكل وفد برئاسة الوزير الكفراوى للذهاب إلى الكويت ولكنه عاد بخفى حنين.. عقد تجديد قصر الأمير.
وعندما عاد الكفراوى إلى مصر وسئُل ماذا وجدت فى الكويت؟ وقال: «لقد وجدت الكويت لم تدمر كما يقولون لم أجد لوح زجاج واحدا مشروخا.. الكويت لم تدمر، فالذى يقول لى أن إعادة إعمارها يتكلف 120 مليار دولار أقول له «هذا مؤخر أتعاب»، وأضاف قائلا: لقد دمرت لدينا فى مصر ثلاث مدن كبيرة هى السويس والإسماعيلية وبورسعيد فى حرب 67 وما تبعها من حروب الاستنزاف.. وأعدنا بناءها بـ 750 مليون دولار أى أقل من مليار واحد طبعا ليست بمستوى الكويت ولكن على الأقل عاد إليها سكانها.. وهم أكثر كثيرا من سكان الكويت ليجد كل واحد بيتا ومياها وكهرباء ومدارس ومستشفيات وبنية أساسية ومدن تعمل بجميع مقوماتها».
هذا الكلام أوجع الملك فهد خاصة أنه مقنع وبالذات كلمة مؤخر أتعاب.. خاصة أن السعودية فى نفس القارب، حيث كلفتها الحرب حوالى 55 مليار دولار معظمها ذهبت «أتعاب» إلى الولايات المتحدة.
أعود إلى الأمير سعود الفيصل الذى تحدث كثيرا عن استياء الملك فهد نظرا لأن الكلام صادر من وزير فى حكومة أهم دولة عربية وأنه أى الملك فهد ــ كلفه باستدعائى لإبلاغ هذه الرسالة إلى الرئيس حسنى مبارك.
وقد يبدو أن رد فعل السعودية كان مبالغا فيه، فهناك فى العرف الدبلوماسى مستويات عدة لإبلاغ احتجاج أدناها يكون باستدعاء مسئول بالخارجية لمسئول فى السفارة ليثير معه الموضوع شفويا، وأعلاها رسالة من رئيس الدولة إلى رئيس الدولة.
إلا أن المتابع للشأن السعودى يعلم أنهم يهتمون بالإعلام بشكل كبير ولديهم حساسية مفرطة مما ينشر ويذاع.. فمنذ أيام إذاعة صوت العرب وأحمد سعيد وما أحدثته من تحولات فى الأفكار والتوجهات بدأ التنبه لخطورة الإعلام، وصمموا على امتلاك أفضل الوسائط الإعلامية المقروءة والمرئية، وقد تحقق لهم ذلك (قنوات العربية والـMBC وجريدة الشرق الأوسط والحياة).
التقيت المهندس حسب الله الكفراوى بعد ذلك بشهور مصادفة فقال لى إن الرئيس السابق طلب منه إصدار تكذيب، وأنه اعتذر، حيث لا يستطيع أن يكذب كلاما صدر منه بالفعل فصدرت تعليمات الرئاسة إلى دار الهلال بالتكذيب وتم ذلك بالفعل.
الأتعاب بين الأشقاء العرب:
والأتعاب فى العلاقات الدولية ــ سواء دفعت مقدما أو مؤخرا نقدا أو عينا أو فى أى صورة من الصور أمر مألوف.. حتى بين الأشقاء العرب.
فمثلا.. كان لابد للتحالف الدولى الذى سيحرر الكويت أن يشمل دولا عربية، وركزت السعودية جهودها على سوريا والمغرب.. سوريا لعدائها الشديد للنظام العراقى والمغرب للتعاطف الطبيعى بين الملوك والعروش.. أما مصر فكان أمر تأييدها ــ بل وحماسها ــ أمرا مفروغا منه، وهى التى قادت التحرك السياسى داخل الجامعة العربية لاستصدار قرار ــ مشكوكا فى شرعيته ــ بالمشاركة.. بينما فى هذا المقام.. تعامل سوريا مع مطلب المشاركة فى الحرب. فقد طلبت اجتماعا عاجلا مع كلٍ من مصر والسعودية وتقدمت بمشروع إنشاء مجموعة تعاون عربى تضم مصر وسوريا ودول الخليج.. وذلك حتى تضمن استمرار التعاون ــ بعد انتهاء حرب الكويت ــ والتعاون هنا يترجم بتدفق الأموال والمعونات والاستثمارات الخليجية.. كانت سوريا فى أشد الحماس لإنجاز هذا المشروع قبل بدء العمليات العسكرية.. بينما كانت مصر أقل حماسا لأن علاقاتها بالسعودية ودول الخليج لا تحتاج إلى توثيق.. فإحدى العقائد الراسخة لدى الحكم والشعب فى السعودية هى ارتباط أمن مصر يأمن السعودية.. وهناك قصة تسمعها دائما فى السعودية حول وصية الملك عبدالعزيز لأبنائه وهو على فراش الموت.. من «ان أمنكم وأمن بلادكم مرتبط بمصر.. وطالما علاقاتكم طيبة بمصر فأنتم وبلادكم فى مأمن»..
أما الموقف السورى فيلخصه ما أسر لى به أحد الأصدقاء من أعضاء وفد التفاوض السورى.. وهو أن «من أين تضمن انصراف السعودية عنا بعد التحرير»..
من هنا.. ومن هذه الخلفية.. ولدت «مجموعة دول إعلان دمشق»..
والتى ماتت بعد ذلك موته طبيعية.. وأقول طبيعية لأن الجميع كانوا يفهمون البواعث التى تحرك هذه المقترحات.. وينفرون منها.. فالمصالح التى التقت فى هذه اللحظة كانت مصالح وقتية.
أقول كانت تلك مصالح وقتية وذلك على عكس ما أعلن عنه مؤخرا من دعوة.. ولاحظ كلمة دعوة.. مجلس التعاون الخليجى لكل من الأردن والمغرب.. أو لنقل لكل من ملك الأردن وملك المغرب للانضمام إلى مجلس التعاون الخليجى.. وبالرغم من أن هذا الموضوع مر فى الإعلام العربى والعالمى مرور الكرام.