عظمة أمريكا كانت وما تزال باحتضان المهاجرات والمهاجرين الذين يتدفّقون إليها سنويًا بعشرات الآلاف، ومعظمهم من المتعلّمين الذين يُثرون مؤسساتها وشركاتها وجامعاتها ومصانعها ومصارفها وإعلامها، وبالتالى يُساهمون فى توطيد هيمنتها على العالم.
ومع ذلك، يستمرّ الحديث عن "خطر" الأشخاص المهاجرين، فى خطاب شعبوى هو مزيجٌ من الهوس المرضى (فردى وجماعي) والعنصريّة والدجل السياسى الخبيث! لا يمكن أن يمرّ يوم لا يتحفنا فيه سياسى أو رجل دين أو معلّق اجتماعى أمريكى برأيه التافه (وللأسف، رأى مؤثّر) عن الأشخاص المهاجرين – "شرعيّين" أو "غير شرعيّين" – وعن خطرهم على حاضر أمريكا ومستقبلها.
هذا الأمر ينقسم حوله المجتمع الأمريكى بين مؤيّد لسياسة صارمة حيال هؤلاء المهاجرين ومعارض لها، لكن الأغلبيّة تؤيّد درجات من الصرامة فى التعامل مع موضوع الهجرة. والدليل على ذلك أنّ ترحيل المهاجرين "غير الشرعيّين" فى فترة رئاسة دونالد ترامب كان مطابقا – استراتيجيّة وأسلوبا ووتيرة وعددا – لما كان عليه فى فترة باراك أوباما، واستمرّ الأمر على نفس المنوال فى فترة جو بايدن الحاليّة.
ويتقاطع رجم الأشخاص المهاجرين مع إشكاليّة مفادها أنّ أمريكا تعلم أيضًا أنّ مستقبلها متعلّق بهم (شرعيّين أم غير شرعيّين)، فهؤلاء ـ وهنا المفارقة أو التناقض ـ يؤمّنون استمراريّة نظامها المبنى على رأسماليّة متوحشة بكل معنى الكلمة. موضوع الهجرة هو موضوع دسم سياسيّا ويمكن توظيفه فى خدمة أهداف سياسيّة خبيثة حتّى عند من يعرفون جيّدًا أنّهم من دون هذه الشريحة لا يمكن للكماليّات والامتيازات التى يحصلون عليها أن تستمرّ. خطورة الأمر تكمن فى وجود إرادة عند الساسة الرافضين له بعدم إيجاد حل له، ليس لأنّهم عاجزين عن ذلك، بل لأنّهم يستخدمونه لأجل التلاعب بعواطف الناخبين والناخبات عامّةً وأنصارهم خاصّةً (بغضّ النظر عمّا إذا كانوا مع أم ضدّ الهجرة). الحديث المستمرّ عن الهجرة والأشخاص المهاجرين فى سياق الحملات الانتخابية.
هذا ليس بأمر جديد أو استثنائى. هو موضوع كان دائما من الأمور الخلافية، غير أن إدارة بايدن تنتهج السياسات القذرة نفسها التى انتهجتها إدارة كل من ترامب وأوباما، وتواجه التحديات ذاتها التى واجهتها الإدارات السابقة: صعوبة فى احتواء تدفّق الأشخاص المهاجرين، خصوصًا فى الولايات المحاذية للمكسيك؛ مشاكل فى مراكز الاستقبال (والتى أُفضّل وصفها على حقيقتها: مراكز احتجاز وتحقير)؛ عدم كفاءة نظام تعقب الأشخاص المهاجرين عندما يغادرون مراكز «الاستقبال»، إلخ. نضف إلى ذلك التحدّيات الكبيرة التى تواجهها مدن كبرى (مثل نيويورك وشيكاغو وبوسطن وغيرها) فى استقبال وإيواء هؤلاء المهاجرين.
الهجرة إلى أمريكا ليست دائمًا تجربة رائعة، وليست أيضًا نتاج خيارات مفتوحة ووفرة مالية. معظم المهاجرين والمهاجرات كانوا مجبورين على الانتقال من بلادهم بحثًا عن حياة أفضل لهم ولعائلاتهم، أو هربًا من الحروب والتمييز أو عوامل أخرى. سخرية القدر هنا أنّه فى معظم الحالات، هذه العوامل هى نتاج للسياسة الأمريكيّة الخارجيّة، تحديدًا فى أمريكا اللاتينيّة. ووجودهم فى الولايات المتحدة هو فى معظم الحالات أمر إيجابى، وذلك لأنهم يوفّرون عمالة رخيصة، ويساعدون فى إثراء التنوع العرقى فى المجتمع الأمريكى.
والأهم من ذلك أنهم يعملون فى مهن يرفض معظم الشعب الأمريكى القيام بها، مثل الزراعة والإنتاج الحيوانى، جمع القمامة وفرزها، الشحن، البناء، الدهان، العناية بالحدائق، والتعليم إلخ.. ثمة مفارقة أخرى أنّ الأشخاص المهاجرين، خصوصًا من نسمّيهم بـ«غير الشرعيّين» يعملون «على المكشوف» وعلى مرأى من الكلّ. نراهم فى كل مكان: فى المقاهى والمطاعم والفنادق وعلى الأرصفة (خصوصًا فى نيويورك مع انتشار ظاهرة توصيل الطعام إلى المكاتب والبيوت على درّجات هوائيّة يقودها مهاجرون «غير شرعيّين» معظمهم من أمريكا اللاتينيّة أو إفريقيا أو جنوب آسيا).
إذا لم يكن هناك مهاجرون مثل هؤلاء للقيام بهكذا أنواع من الأعمال، لكانت كلفتها أكثر بأضعاف.. وفى بعض الحالات والأماكن، من المستحيل العثور على أشخاص مثل هؤلاء للقيام بهكذا أعمال. أختم مقالى بحوار جرى فى أوائل شهر مايو المنصرم مع تلميذة فى جامعتى (سميث) سألتها عمّا ستفعله فى فصل الصيف، فأجابت أنّها ستذهب إلى مدينتها فى ولاية يوتا لتعمل فى مكتب سيناتور جمهورى، وسيكون دورها مساعدة الأشخاص المهاجرين غير الشرعيّين. سألتها بنوع من الشكّ: لكن السيناتور الذى ستعملين معه معروف بمعاداته للهجرة، فكيف يمكن أن يكون له مكتب لمساعدة هؤلاء المهاجرين غير الشرعيّين؟ فأجابت بما معناه أنّ مواقف السيناتور هى من ألاعيب السياسة الضروريّة فى واشنطن، أمّا فى يوتا، فاقتصاد الولاية لا يعمل من دونهم وهو يساعدهم لأنّ ناخبيه وناخباته يطلبون منه ذلك. نعم، عظمة أمريكا فى مهاجريها ومهاجراتها.
سليمان مراد
موقع 180