قلم وورقة
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 25 يوليه 2012 - 9:25 ص
بتوقيت القاهرة
كان أول درس من دروس «الأمن» فى بدايات العمل الدبلوماسى، أن نحرص على ألا نترك على مكاتبنا مسودات تقارير كتبناها أو ملخصات مقابلات وأحاديث تليفونية. صدر أيضا تنبيه بضرورة أن نتغلب على عادة التسلى خلال الاجتماعات التى نعقدها مع أجانب بالرسم على الورق. حتى وان كانت الرسومات عفوية، وأحيانا سخيفة، ولا تعكس معنى أو تفشى فكرة. قيل لنا فى تفسير هذا التنبيه أن عملاء المخابرات والمباحث فى الدول التى سنوفد إليها، ينتظرون بلهفة انتهاء اجتماعات نحضرها ليدخلوا إلى قاعات الاجتماع بعد خروجنا ويصادروا رسوماتنا ويبعثوا بها «إلى معامل التحليل لاستجلاء أسرارنا وأساليب تفكيرنا».
•••
مرت الأيام، وتصادف أن صدر تكليف بضمى إلى لجنة صياغة فى أحد مؤتمرات القمة العربية. سعدت بالتكليف، ليس فقط لأننى كنت أتوق إلى أن أشاهد وأراقب وأحلل سلوكيات أولى أمرنا والعلاقات بينهم ولكن أيضا لأمتحن ميدانيا ما كنت أبحث فيه أكاديميا.
كان منظمو المؤتمر من الدولة المضيفة حريصين على ألا يزيد عدد أعضاء كل وفد عن ثلاثة يرأسهم الملك أو رئيس الجمهورية. نحن أيضا كنا ثلاثة فى لجنة الصياغة. سمحوا لنا بعد فحص دقيق أن نجلس فى مكان قصى من القاعة نشاهد ونسمع ولكن لا نتدخل. لم تبدأ الجلسة إلا بعد أن أخليت القاعة من الصحفيين ولم يبق فى القاعة سوى المسئولين، ثلاثة من كل وفد ونحن. حتى رجال الأمن خرجوا.
•••
كانت جلسة حساسة لأنها كانت معنية بمنع وقوع حرب بين دولتين عضوين فى الجامعة العربية. دارت مناقشات بعضها كان صريحا على عكس الحال فى مؤتمرات سابقة، واستمرت الجلسة ثلاث ساعات، أحصيت خلالها عدد المرات التى دخل فيها الملوك والرؤساء إلى دورة المياه خاصة وأن أغلبهم كانوا متقدمين فى العمر. كذلك انشغلت بحصر الأخطاء النحوية فى مداخلاتهم ومدى اتساق أفكارها وبالنظرات التى يتبادلونها.
لفت انتباهى بشكل خاص انهماك أغلب الملوك والرؤساء فى « الرسم » على الأوراق المصفوفة أمامهم. كان الظن فى بادئ الأمر أنهم كانوا يسجلون نقاطا وأفكارا ليستعينوا بها فى مداخلاتهم إلى أن تأكدت ظنون أخرى. تأكد من هذه الظنون الظن أنهم كانوا يرسمون ولا يسجلون. إذ إنه عندما انتهت الجلسة وبدأت الوفود تغادر القاعة، تحركت من موقعنا القصى فى ركن القاعة متوجها إلى وسطها حيث اصطفت فى شبه دائرة مقاعد الملوك والرؤساء. مررت عليها وجلست على بعضها أبحث وأنقب فى الأوراق وقمت بنزع الصفحات التى رأيت رسوما عليها وخرجت بها من القاعة. قضيت ليلة كاملة أحلل الرسوم وأخلص إلى نتائجه، لم تكن كلها خائبة. وليس هنا مكان نشرها على أى حال.
•••
فاتنى أن أذكر انه بينما كنت أجمع الأوراق، نظرت حولى لأطمئن إلى أن رجال الأمن لن يعترضوا. لم أجد أحدا بالقاعة سوى سيدة شقراء متوسطة العمر تمر على مواقع جلوس الملوك والرؤساء والوزراء تنزع أسلاكا. تقدمت منها لأتعرف عليها. عرفت أنها «الخبير» الأجنبى المكلف من جانب شركة أوروبية متخصصة فى الاتصالات لمتابعة الأعمال الفنية الخاصة بتسجيل أعمال المؤتمر وصيانة مكبرات الصوت وآلات التصوير. استمرت تجمع الأسلاك واستمر عملى فى استكمال جمع الرسومات، وعند توديعها عرفت أنها تجيد العربية وأنها، ومعها فريقها الفنى، تابعوا جلسة القمة على امتداد الساعات الثلاث.
مرت أسابيع قبل أن تقع بين يدى صحيفة أوروبية وفى صدر صفحتها الإخبارية عن الشرق الأوسط ملخص لمحضر هذه الجلسة السرية الحساسة.
•••
لم يخطر على بالى وأنا أجمع رسومات الملوك والرؤساء فى تلك المدينة الخلابة أن يوما سيأتى اقرأ فيه لأكاديميين أمريكيين نصيحة أن نعود إلى ممارسة عادة الرسم على «البلوكنوتات» خلال الاجتماعات وعلى كراريس المدرسة وعلى كل ورقة تقع بين أيدينا. ينصحون ألا نخجل من الرسم على «الفوط الورقية» فى المطاعم والمقاهى، أو نتردد فى الرسم خلال اللقاءات الشخصية. يعتقدون أنها تخفف القلق وتطرد الملل وتنفس عن الغضب، وأحيانا تكون فرصة للتفكير قبل الرد. كذلك اكتشف إيديلمان الأستاذ بجامعة ستانفورد بالولايات المتحدة أنها تساعد على الشرح إذا قام المتحدث بتمرير ما رسم على المجتمعين، أو قام إلى سبورة على الحائط ورسم وهو يتكلم. لا يهم عندئذ أن تكون ماهرا فى الرسم، المهم أن تنقل ما تفكر فيه خطوطا وأشكالا. حاول أن تتخلف فى قاعة اجتماع بعد خروج المشاركين واطلع على رسوم تركوها على أوراق كانت أمامهم. ستكتشف أمورا لم تخطر يوما على بالك.
•••
مازلت أعتقد أن للثنائى «الورقة والقلم» سحرا لا يقاوم. فيه أناقة وكفاءة وسرعة. وفيه جانب من سيرة وشخصية كل منا.