قبل أن تصبح فتنة طائفية
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الإثنين 25 يوليه 2016 - 10:50 م
بتوقيت القاهرة
ارتفعت أصوات كثيرة ومحترمة تطالب بتطبيق القانون بحزم وعدالة فى مواجهة أحداث العنف الطائفى الأخيرة فى الصعيد ورفض الاكتفاء بجلسات الصلح العرفية التى تنتهى بإفلات الجناة من العقاب وتشجيع المزيد من الاحتقان ومعاقبة الضحايا بدلا من حمايتهم. وهذا مطلب ضرورى لأنه بدونه لا تكون الدولة جادة فى مواجهة الطائفية ولا احترام للدستور والمواطنة. ومع اتفاقى التام مع ضرورة تطبيق القانون لمواجهة العنف الطائفى المتصاعد، إلا أن هذا لم يعد كافيا بل نحتاج لمعالجة أكثر اتساعا لجوهر المشكلة وأصولها وليس مجرد استيعاب تداعياتها ومعالجة آثارها.
هناك أولا ضرورة لصدور قانون طال انتظاره وهو قانون المساواة ومكافحة التمييز. الدستور الجديد جاء بأحكام واضحة فى هذا الشأن. ولكن نصوص الدستور تحدد المبادئ العامة ولا تكون دائما قابلة التطبيق بشكل مباشر، بل تحتاج إلى قوانين تترجم المبادئ إلى مواد محددة وآليات للتفعيل وعقوبات تقع على المخالفين. ولذلك فإن عدم صدور هذا القانون حتى الآن يعطل تطبيق المبدأ الدستورى ويجعل الأمر يقف عند الشعارات العامة والأفكار النبيلة. وهذا القانون لا ينبغى أن يقتصر على التعامل مع جرائم العنف الطائفى الأخيرة كما يحدث فى كثير من القوانين التى تصدر تحت وطأة ظروف طارئة، بل يلزم أن يكون تشريعا شاملا يواجه كل أشكال التمييز فى المجتمع بين المسلمين والمسيحيين، والرجال والنساء، والشباب والكهول، والأغنياء والفقراء، وأن يتناول ذلك عن طريق ضمان المساواة فى جميع الحقوق والواجبات بما فى ذلك العبادة والعقيدة والتعبير والعمل وتقلد الوظائف العامة والحصول على خدمات الدولة. مبدأ المساواة بين المواطنين لا يقبل التجزئة ولا يصح أن يكون مجالا للمناورة أو المقايضة السياسية. كذلك فإن الموضوع لا يقف عند إصدار قانون يضاف إلى غيره من القوانين المعطلة، بل يلزم أن يتزامن معه تأسيس مفوضية المساواة، وتدريب أعضاء النيابة والقضاء، والاستعانة بالجمعيات الأهلية، وتوعية المواطنين بحقوقهم، ووضع إرادة الدولة السياسية وراء التطبيق الكامل لهذا القانون.
من جهة أخرى فإن كان احترام القانون وتطبيقه ضروريين لوقف العنف الطائفى، فإنه لا يوجد مجتمع يختار تطبيق القانون فى مجالات معينة ويكون مستعدا لتجاهله فى مجالات أخرى لا تحظى بذات الاهتمام. هذه الانتقائية لا تأتى بنتائج إيجابية ومستمرة. احترام القانون وتطبيقه يجب أن يكون مطلبا عاما وشاملا لكل من يأمل فى تحقيق أى قدر من العدل والمساواة وترسيخ مبدأ المواطنة فى مصر. لا يمكن اعتبار أن تطبيق القانون ضرورى فى الشأن الاقتصادى وأقل ضرورة فيما يتعلق بالحقوق والحريات، أو أن حقوق المواطنين وحرياتهم جديرة بالحماية فى قضايا معينة وليست بذات الأهمية فى قضايا أخرى. من يسعى لحماية المواطن المصرى وكفالة حقوقه الدستورية عليه أن يتمسك بذلك طوال الوقت وفى كل القضايا وأيا كانت هوية هذا المواطن أو انتماؤه الفكرى والعقيدى. معركة الوطن هى استعادة دولة القانون واحترام الدستور، وهى معركة لا تقبل التجزئة والانتقاء.
أما عن كيفية التعامل مع العنف الطائفى، فإن مصر عرفت لسنوات طويلة ــ قبل ثورة يناير وبعدها ــ نوعين من التدخلات الرسمية. التدخل الأمنى حيث تتجاهل الدولة علامات التوتر والاحتقان ولا تتعامل مع أسبابه ثم تدفع بقواتها لوقف العنف بعد اشتعاله ومطاردة الجناة ورعاية الصلح العرفى وربما إعفاء أحد المسئولين من منصبه. أما التدخل الثانى فهو استدعاء المؤسسات الدينية الرسمية للمشاركة فى جلسات الصلح وتهدئة النفوس والحديث عن الوحدة الوطنية وتطوير الخطاب الدينى. ويأتى مع هذين الشكلين من التدخل الرسمى رسالة ضمنية وأحيانا صريحة بأن هذا الموضوع، بسبب خطورته وأهميته، لا يصح أن تشارك فيه أطراف أخرى لا تحمل صفة أمنية أو دينية. وهذا فى تقديرى خطأ كبير تواترت على ارتكابه الأنظمة والحكومات المتعاقبة لعشرات السنوات بينما الواقع أن تهدئة الاحتقان الطائفى والتعامل مع جذوره العميقة فى المجتمع لن يكون ممكنا دون مشاركة أوسع من المجتمع بأسره. فى كل بلد يسعى لتحقيق سلم اجتماعى حقيقى ومستمر فإن الدولة تشجع مؤسسات المجتمع على القيام بأدوارها المختلفة فى تحليل أصل المشكلة وتقديم الحلول والعمل على الأرض فى المناطق التى تعانى من التوتر الاجتماعى ودق أجراس الإنذار المبكر والتدخل لمنع وقوع العنف. ولكن فى ظل الحالة الراهنة التى تتوجس فيها الدولة من المؤسسات والأنشطة السياسية والأهلية، وتضيق الخناق على المجتمع المدنى، وتسعى للسيطرة على الخطاب الإعلامى، وتضيق ذرعا بأصوات الشباب والمعارضة، فإن الاحتقان لابد أن يتصاعد والفتنة تختمر وآليات المجتمع للتعامل مع العنف تنهار، فلا يبقى سوى التدخل الأمنى بعد أن تكون البيوت والكنائس قد احترقت، ثم تدخل المؤسسات الدينية لرعاية صلح عرفى يكرس غياب دولة القانون. ومصر ليست خالية من الخبرات والتجارب فى هذا المجال، بل جرت محاولات عديدة خلال السنوات الماضية لبناء آليات اجتماعية ومحلية لنزع فتيل الاحتقان الطائفى فى قرى الصعيد ولبناء الثقة والمودة فى مجتمع منقسم ولكن للأسف أن الدولة ظلت تعتبر هذه المحاولات النبيلة والشجاعة مجرد تدخل فى شأن ينبغى أن يقتصر على رجال الأمن والدين وحدهم، وهذا كما أكدته التجربة ليس كافيا.
وأخيرا فإن المساحة هنا لا تتسع للتطرق إلى جميع العوامل الاقتصادية والاجتماعية التى تساهم فى زيادة الاحتقان وتصاعد العنف، ولكن على الأقل دعونا نتفق على أنه مع زيادة الأسعار وندرة فرص العمل وضعف الحماية الاجتماعية وغياب فرص التقدم، ومع انتشار السلاح فى القرى، فإن مقومات العنف وأسبابه لن تهدأ مهما حسنت النوايا. هذا ليس تبريرا للعنف الطائفى ولا التماسا للأعذار لمن يرتكبونه، فالقانون يجب أن يأخذ مجراه، وهذا أضعف الإيمان. ولكن يجب التأكيد على أنه مع غياب سياسات اجتماعية ناجحة واستمرار الركود الاقتصادى والتضخم فى الأسعار فلن يتوافر المناخ الذى يحقق سلاما اجتماعيا.
التوتر الطائفى لا يمكن أن يؤخذ باستخفاف أو تجاهل وإلا تحول إلى فتنة تحرق الأخضر واليابس. والأمر يحتاج إلى وقفة حاسمة من المجتمع بأسره ضد التطرف والتمييز وليس مجرد التدخل بعد أن يكون العنف قد وقع. فمتى نبدأ هذا المشوار الذى يعتمد عليه مستقبل الوطن؟