والجاذبية التى تسير على هواها
جيهان أبو زيد
آخر تحديث:
الإثنين 25 يوليه 2022 - 7:30 م
بتوقيت القاهرة
لم أعرف أبدا متى سقطت «كاملة» من الأرجوحة؟
والغريب أنها لم تسقط بمفردها، بل سقطت الشابة الجامعية الموهوبة مع أفراد عائلتها، الأرجوحة المعدنية العميقة كانت تضم العشرات وقد أقسم شاهد ما أنها كانت تحمل الآلاف بل تمادى وهتف أظنهم كانوا ملايين. الأرجوحة التى تتراقص يمينا ويسارا وتعلو وتهبط، أخلت بوعدها للجاذبية الأرضية وارتفعت بعناد لتسقط «كاملة» والآخرين بينما واصلت الارتفاع وانفصلت عن المتن ومازالت تعلو وتبتعد بمن عليها.
وبينما يدفع الهواء أرجوحة الصغار، فالأوبئة والحروب والاحتلال المباشر أو غير المباشر والتغيرات المناخية والفساد وسياسات التكيف الهيكلى هى ما تدفع أرجوحة الكبار وتطرح البشر أرضا ثم تصعد بقلة منهم للسماء حيث النخبة الناجية من هلاك الفقر والجوع واللجوء. تتباهى اللامساواة بتضخمها وبنجاحها فى إزاحة مزيد من البشر إلى أسفل، وبرغم أنها نتيجة وليست فاعلا أصيلا فهى لا تكف عن الفخر بنموها وتتصدر المشهد فى تغييب متعمد للفاعلين.
• • •
فى اللقاء الذى أعدته شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية منتصف شهر يوليو الراهن ضمن فاعليات المنتدى السياسى رفيع المستوى المعنى بالتنمية المستدامة 2022 بمقر الأمم المتحدة بنيويورك، والمنعقد بعنوان «إعادة البناء بشكل أفضل بعد جائحة كوفدــ19»، مع النهوض بالتنفيذ الكامل لخطة التنمية المستدامة لعام 2030، ذكر «زياد عبدالصمد» أستاذ العلوم السياسية بالجامعة اللبنانية الأمريكية والمدير التنفيذى للشبكة، بأن ستة عشر مليون مواطن/ة عربية قد سقطوا فى فخ الفقر المدقع إثر جائحة كوفيدــ19، وهناك 60 مليون عربى يحتاجون مساعدات إنسانية للبقاء على قيد الحياة.
تسجل المنطقة العربية أعلى مستويات التفاوت واللامساواة فى تركز الدخل والثروة فى العالم، إذ يستحوذ 10% من السكان البالغين على 61% من إجمالى الدخل، فى حين أن 50% من السكان لا يحصلون إلا على 9% فقط. المنطقة هى الأعلى فى بطالة النساء وهى الثانية فى معدلات العنف ضدهن. وفى تفسيره لأسبابها يشير آدم هنية فى كتاب «اللامساواة والفوارق الاجتماعية بواسطة عدسة إقليمية» للمجلس العربى للعلوم الاجتماعية إلى الأشكال الجديدة للهيمنة التى تروج للاقتراض المشروط من المؤسسات المالية المشروطة وتطبيق برامج التكيف الهيكلى، والتى تسببت فى تغيير السياسات الاقتصادية للدول العربية جذريا وأدت إلى رفع الدعم عن الفلاحين خالقة واحدة من أشد أنماط اللامساواة فى ملكية الأراضى فى العالم.
اللامساواة التى فضحتها الجائحة ليست بمفاجأة بل إنها عريقة متجذرة منذ أمد بعيد، إن الخلل فى معالجات اللامساواة قديم ومسبب من مسببات ارتفاعها، فبرامج الحماية الاجتماعية لا تغطى سوى ما يقرب من 30 % من مجموع السكان وتستثنى بالطبع الفئات الأكثر حاجة للحماية وعلى رأسها العمالة غير الرسمية واللاجئين/ات وقد كشفت الجائحة عن عمق الاحتياج إلى منظومة حماية اجتماعية حقيقية ومستقرة لا تعبث بها الأهواء السياسية ولا توصيات المؤسسات المالية العالمية.
وضعتنا الجائحة عند مُفترق طرق فيما يخص أنظمة الحماية الاجتماعية العربية فإما أن تسلك الدول «الطريق السريع والرئيسى» لتحقيق الحماية الاجتماعية الشاملة مهما كانت الكلفة باعتبارها أولوية لا تعلوها أى أولوية أخرى، أو أن تستمر فى سلوك الطرق الثانوية التى تعمد لتوفير الحد الأدنى من الخدمات و«شبكات الأمان» لبعض الفئات الأكثر هشاشة، وتحذر منظمة العمل الدولية من اتخاذ خيار الطرق الملتوية الذى سيؤدى لإلقاء مزيد من البشر إلى هوة الفقر.
ويتفاوت الإنفاق الحكومى على الحماية الاجتماعية تفاوتا كبيرا. ففى المتوسط، تنفق البلدان 12.8 فى المائة من ناتجها المحلى الإجمالى على الحماية الاجتماعية (باستثناء الصحة)، غير أن البلدان مرتفعة الدخل تنفق 16.4 فى المائة، بينما لا تنفق البلدان متدنية الدخل على الحماية الاجتماعية سوى 1.1 فى المائة فقط من ناتجها المحلى الإجمالى. وعربيا بلغ معدل الإنفاق على الصحة 3 % فقط، مقابل متوسط عالمى يبلغ 5.9%، وفقا لمنظمة الإسكوا، لكن المفارقة أنه وفـى عـام 2019، خصصـت المنطقـة العربية حوالـى 5.4% من ناتجهـا المحلـى للنفقات العسـكرية مقابـل متوسـط عالمـى يبلـغ 2.2% .
• • •
تمتد جذور اللامساواة أيضا إلى المكون الثقافى الذى ينأى بدوره عن تغيير قواعد اللعبة السياسية والاقتصادية القائمة على أسس أبوية يهيمن بمقتضاها الذكر على المجالين العام والخاص، ليعيد مرة أخرى إنتاج سياسيات مُكرِسة للتمييز بين الجنسين وبين الطبقات الاجتماعية وبين الريف والحضر وبين سكان المدينة والقابعين على أطرافها.
تتكاتف الظروف البيئية مع القوى المهيمنة وتُحكم الخناق على الضعفاء نساء ورجالا متحدية ظروف البقاء والقدرة على مواصلة الحياة، فالمنطقة تعانى من جفاف يتزايد ورقعة زراعية تتآكل، وأمن غذائى بات على المحك، وتحتل 14 بلدا فى المنطقة صدارة لائحة 33 بلدا فى العالم، تواجه شح مياه حقيقيا فى العقود المقبلة مما يعنى انخفاض الزراعة فى المنطقة العربية بنسبة 20% بحلول عام 2080. وفقا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائى.
الحرب على أوكرانيا بدورها تهدد بمعاناة جوع قادمة ستطال أيضا نفس الفئات الضعيفة التى تتضرر من التغير المناخى ومن السياسيات الاقتصادية، مما دفع الخبراء لإيقاظ الدعوات السابقة المُطالبة بتنويع مصادر استيراد الغذاء وبتعزيز الأمن الغذائى، عبر الاستثمار فى مشروعات زراعية عربية مشتركة، وذلك فى ظل وجود فوائض مالية ضخمة وأراضٍ شاسعة قابلة للزراعة على امتداد المنطقة.
وفى حين ناشد الأمين العام المجتمع الدولى التكاتف لمواجهة تحديات فجوة اللامساواة المتزايدة الناجمة عن الأزمات العالمية الراهنة المتمثلة بجائحة كورونا، أزمة المناخ وآثار الحرب على أوكرانيا، فقد رأى المشاركون بندوة الشبكة العربية أن المجتمع الدولى ذاته فاعل فى تصعيد الأزمات وأن الحلول الجذرية دائما وأبدا تأتى من الداخل وعلى يد من يكترث.
باحثة بمركز جنيف للدراسات