قد يهون العمر إلا ساعة
نيفين مسعد
آخر تحديث:
الخميس 25 أغسطس 2011 - 8:36 ص
بتوقيت القاهرة
كأن الطريق الموصل إلى جامعة القاهرة ليس هو الطريق الذى قطعته مئات المرات على مدار ثلاثين عاما أو يزيد. كتلة من البشر بطول كوبرى الجامعة وأسفله وحول تمثال نهضة مصر تحول المشهد إلى ما يشبه لوحة تشكيلية أبدعها فنان موهوب عن لحظة زحام. كلما أوغل الليل وتقدم يتدفق مزيد من البشر على موقع الحدث، فعلى مرمى حجر منه مسجد صلاح الدين الشهير يؤدى فيه المصلون صلاة التراويح ويستعجلون بشائر أول يوم فى العشرة الأواخر من رمضان ثم يولون وجوههم شطر الموقع. قدرُ رمضان أن يلهم المصريين ما لم يخطر على قلب بشر، فيه حطموا خط بارليف وعبروا القناة، وفيه تنتظرهم مفاجأة على يد واحد منهم يحرر مشاعرهم الحبيسة داخل صدورهم غضبا وثورة، وليس كل التحرير فى الميدان.
إن أنت حصلت على عدسة مكبرة وتفرست فى وجوه الجمع المحتشد أسفل العمارة التى تشغل السفارة الإسرائيلية طابقيها الأخيرين فستجد بعضها لأطفال وكهول. أما أكثرها فلشبان مثل الورد لا هم خدموا على الجبهة ولا فقدوا بالضرورة عزيزا لهم فى حرب، تفتحت عيونهم على توقيع معاهدة السلام ونضج وعيهم مع اتفاقية الكويز وجريمة بيع الغاز. ومع ذلك فها هى أعلامهم الفلسطينية ترفرف على شرفات البنايات المطلة على السفارة وبمحاذاتها ترد على حصار غزة بحصار فريد من نوعه: الحصار بالأعلام. يصنع المتظاهرون بسواعدهم الفتية سلسلة بشرية متينة الحلقات يحاولون بها حماية الجيش من بعض أصحاب الأعصاب المنفلتة إراديا أو لا إراديا، ويتفادون بذلك تحويل الموقف الوطنى الجامع إلى كارثة محققة. يدرك العقلاء جيدا أن الجنود الرابضين فى دباباتهم وخارجها يجاملونهم بالحياد ويخرقون بحيادهم هذا القواعد الدبلوماسية وشرط المعاملة بالمثل بين الدول، فمقر أى سفارة هو بمثابة قطعة من أرضها. ويقدر هؤلاء العقلاء للجنود الواقفين قبالتهم رد الجميل على غضبة الشعب المصرى لسقوط شهداء الحدود.
وسط عشرات الصواريخ البدائية التى تلمع كالبرق فى سواد الليل وتحاول عبثا أن تطول علم إسرائيل، تسرى همهمات بأن شابا يحاول أن يستبدل علم مصر بعلم إسرائيل فينتاب الجميع مس .من جنون وتبلغ الحماسة ذروتها. تتولى تلقائية اللحظة تأليف هتاف مناسب وتلحينه فيصرخ الكل فى صوت واحد: «ياللا يا بطل نزل العلم» من دون أن يتعرف عليه أحد. يحبس الجميع أنفاسهم فى انتظار اللحظة الحلم حتى إذا تبينت الأبصار بصعوبة علم مصر يرفرف فى أعلى البناية علا التكبير والنشيج، وتلاطمت السواعد تتهيأ لاستقبال البطل العائد من رحلته بين السماء والأرض. وهنا ينزل أحمد الشحات.
ليكن أحمد الشحات من يكون، ليتنا لا نسيسه ولا نتخاطفه ولا يحاول كل منا أن ينسبه لنفسه. فالرجل فعل فعلته بعفوية مذهلة وأتته فكرتها فى التو واللحظة، تَخفى عن العيون ولم يبح بسره لأحد خوفا من نصيحة تثنيه، وحمل روحه على كفيه وهو يعلم أن قدمه قد تزل فيسقط أو يقنصه جندى أو حارس فيرديه صريعا. فعل فعلته وهو واثق حتى أن راية مصر لن تبقى طويلا فوق السفارة وأن إنزالها من مقامها سيكون موقفا شديد الصعوبة على النفس لأن بديلها هو إعادة رفع علم إسرائيل. هذه النقطة بالذات هى أبلغ رسائل رحلة الشحات على الإطلاق، فالشاب أرسل رسائل بالجملة إحداها تفيد سراب مبدأ التطبيع، وأخرى تفيد أنه فى مواجهة التناقض الرئيسى يذوب كل المصريين وتُهمش تناقضاتهم الفرعية، وثالثة تفيد أن الإنجاز مفتاحه الإرادة. أما رسالته الأهم فهى أن شابا فى مثل عمره مستعد للتضحية بحياته من أجل ساعة أو بضع ساعة يهدى فيها بنى وطنه سماء صافية لا يرفرف فيها علم إسرائيل، ومن قبل قال أمير الشعراء أحمد شوقى:
قد يهون العمر إلا ساعة وتهون الأرض إلا موضعا
إن الفارق بين من تتساوى لديه قيمة الحياة مع قيمة الكرسى الذى يجلس عليه وبين من تتساوى حياته مع علم وطنه، هو بالضبط الفارق بين عصر ما قبل ثورة يناير وما بعدها.