معنى أن تكون مقدسيا!
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 25 أغسطس 2024 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
لا تلخص مدينة القدس القضية الفلسطينية، لكنها ترمز إلى أكثر مواضعها حساسية وإلهاما لمئات الملايين فى أنحاء العالم.
بقوة رمزيتها أطلق على أحداث السابع من أكتوبر (2023) اسم عملية «طوفان الأقصى»، رغم أن وقائعها جرت فى غلاف غزة على بعد عشرات الكيلو مترات من المدينة المقدسة.
كما نسبت التضحيات فى قطاع غزة، التى تفوق القدرة الإنسانية على التحمل، من حروب إبادة وتجويع منهجى إلى رمزية القدس ذاتها.
لا يمكن تفريغ الصراع الضارى على مستقبل القضية الفلسطينية من أبعاده الروحية.
وقد أضفت الاقتحامات المتكررة بقيادة الوزير اليمينى الأكثر تطرفا «ايتمار بن غفير» للمسجد الأقصى تساؤلات خطرة حول ما قد يحدث مستقبلا، كأن يهدم بسيناريو أو آخر.
مصير المدينة المقدسة ليس شأنا يخص المسلمين وحدهم.
بصورة رمزية فإن مصير المسجد الأقصى وكنيسة القيامة واحد.
فى التفاته رجل لديه حس استثنائى بالتاريخ أغلق البابا الراحل «شنود الثالث» ذات حوار بيننا منتصف تسعينيات القرن الماضى جهاز التسجيل متسائلا: «ماذا قد يحدث، وحاشا لله، إذا ما هدم المسجد الأقصى؟!».
انطوى سؤاله فى وقته وحينه على خشية صريحة من مستوى الأداء الرسمى العربى فى مواجهة التحديات والمخاطر، لعل الأمور الآن أسوأ.
«زيارة القدس الآن خيانة للمسيح».
كانت تلك عبارة قاطعة كلفته صراعات وصدامات تمكن بثقله الروحى من تجاوزها.
الوجهان متداخلان، الدينى والسياسى، الإسلامى والمسيحى، والفصل مستحيل.
«القدس خط أحمر.. ومن يوافق على التفريط فيها ثمنه رصاصة».
كان ذلك من رأى الرئيس الأسبق «حسنى مبارك»، كما أعرب عنه أثناء لقاء ضمه إلى مجموعة من رؤساء تحرير الصحف المصرية إثر مقتل الطفل الفلسطينى «محمد الدرة» فى (30) سبتمبر (2000).
عمت وقتها شوارع القاهرة تظاهرات غاضبة لتلاميذ المدارس.
كانت تلك العبارة بحذافيرها من مأثورات الزعيم الفلسطينى الراحل «ياسر عرفات».
فى النصف الثانى من تسعينيات القرن الماضى ردد «فاروق قدومى» رئيس الدائرة السياسية فى منظمة التحرير الفلسطينية نفس العبارة بحمولاتها السياسية والإنسانية.
ذات لقاء طرحت عليه سؤالا يتعلق بمصير القدس واحتمالات التفريط فيها فى أية مفاوضات لاحقة.. صنع بيده اليمنى شكل مسدس، ثم لوح بيده كأن رصاصة تنطلق.. قائلا: «هذا هو مصير من يفرط فيها حتى لو كان عرفات نفسه».
هو رجل عهد عنه الاتساق فى المواقف والسياسات مهما كلفته من صدامات مع رفاقه، الذين شاركهم تأسيس حركة «فتح» كبرى المنظمات الفلسطينية.
عارض اتفاقية «أوسلو» وصوت ضدها فى اللجنة التنفيذية العليا لمنظمة التحرير الفلسطينية، ووقف دوما مع حق المقاومة حتى رحيله الحزين قبل أيام فى ذروة المواجهات على المصير الفلسطينى.
القدس لا مساومة عليها ولا تفريط فيها.
هذه حقيقة لا يمكن تجاوزها بأى حساب أو اعتبار.
فى الأيام الأخيرة شاعت على شبكة التواصل الاجتماعى أقوال متهافتة لناشط مجهول يتحدث باسم جماعة مجهولة تنسب نفسها إلى العلمانية يتحدث باستهتار بالغ عن القدس قائلا: «إنها مدينة عادية كأى مدينة أخرى، لا شأن لنا بها ولا بقضيتها».
الكلام بذاته لا قيمة له، لكنه ليس مجانيا.
بتوقيته فإنه يدخل فى الصراع على مستقبل القدس كتلخيص للقضية الفلسطينية كلها.
وبمنطقه فإنه هدية مجانية تسلم بشرعية الاحتلال وتهويد القدس بالكامل وطرد الفلسطينيين منها والقبول بهدم المسجد الأقصى.
الكلام ليس جديدا، لكنه هذه المرة أفلتت عباراته عن أى منطق.
قد يقال إن صاحبه مجهول وتأثيره منعدم، لكن الكلام يدخل فى سياق الصراع المحتدم على المعانى الكبرى والرموز النافذة.
بصورة أو أخرى فهو امتداد لدعوات أخرى حاولت نزع القداسة عن المسجد الأقصى بالتشكيك فى موضعه بالمدينة المقدسة وفى رواية «المعراج» نفسها.
بما هو سياسى فإن التشكيك يستدعى بالضرورة نفى أية أحقية عربية فى القدس وينفى عن فكرة المقاومة جدارتها ومشروعيتها.
هذا هو صلب الكلام المتفلت.
إنه الصراع على الرموز والمعانى الكبرى.
الاستهداف نفسه يتمدد جوهريا إلى ما هو سياسى مباشر بتعمد النيل من ثلاث شخصيات تاريخية على سبيل الحصر، «صلاح الدين الأيوبى» برمزيته فى تحرير القدس، و«أحمد عرابى» بدوره فى تحدى المشروع الاستعمارى بقوة السلاح، و«جمال عبدالناصر» بمشروعه التحررى الوطنى والعروبى.
هناك فارق بين النقد المشروع والاستهداف بالتشويه.
الأول مشروع تماما.. والثانى جريمة تاريخية متكاملة.
إذا لم يكن لمصر وعالمها العربى شأن بقضية القدس فإنها تخسر كل شىء، أدوارها فى عالمها العربى واحترامها لنفسها.
إنه التسليم بكامل الرواية الصهيونية، والهزيمة المطلقة التى فشلوا أن يصلوا إليها فى ميادين القتال.
بما لديه من مستندات وخرائط حذر شيخ الأقصى «رائد صلاح» مبكرا من حجم الأخطار التى تحيق بالمسجد المبارك وتهدد بانهيار مفاجئ فى بنيانه جراء حفريات اقتربت من عمقه تحت المنطقة المسماة الكأس بين المسجد وقبة الصخرة.
كان من رأى الأستاذ «محمد حسنين هيكل» ردا على رسالة من الشيخ «صلاح»: «إن الأقصى معنى كبير قبل أن يكون معلما خالدا بالنسبة لنا جميعا، فهو الحسنيان معا، إذا جازت الاستعارة، فهو تاريخ القداسة، وهو قداسة التاريخ».
«القضية تتعدى أى شخص وأى مؤتمرات صحفية قد يعقدها، فللكلمات طاقتها وحدودها، التى لا تستطيع تجاوزها إذا لم تستند إلى موقف سياسى شعبى واسع من داخل الأرض المحتلة نفسها، فقد شاءت الأقدار أن يتحملوا هم - قبل غيرهم وفى مقدمة الصفوف - عبء الدفاع عن المسجد الأقصى».
كانت تلك رؤية فى معنى أن تكون مقدسيا، غير أنها لا تلغى بالوقت نفسه مسئولية الآخرين فى الدعم والإسناد.
برمزية الأقصى فى الحرب على غزة دفع أهلها أثمانا باهظة تفوق طاقة البشر على أى تحمل من أجل أن يعاد اعتبار القضية الفلسطينية من جديد.
هذا جوهر الصراع على المصير والمعنى الحقيقى للمقاومة تحت أسوأ الظروف وأخطر التحديات.