قنوات العدوى المالية وانتشار الأزمات
مدحت نافع
آخر تحديث:
الثلاثاء 25 سبتمبر 2018 - 9:25 ص
بتوقيت القاهرة
تماما كما تنتقل عدوى الأمراض العضوية، هناك قنوات لانتقال عدوى الأزمات المالية من دولة إلى أخرى ومن إقليم إلى آخر. عبر تلك القنوات تنشأ الأزمات العالمية، تترك آثارا مدمرة على اقتصادات العديد من الدول، تتفاوت درجة التدمير وتبعات الأزمة بين البلدان، لكن الأثر السلبى النظامى الشامل يميز تلك الأزمات التى تأتى كثيرا ما توصف بكونها دورات اقتصادية عادية.
فى مايو من عام 2011، وخلال محاضرة للبروفيسور «لويس ماركيز» أحد اقتصاديى صندوق النقد الدولى، تم إلقاء الضوء على قنوات العدوى للأزمات المالية، وحصرها «ماركيز» فى الروابط التالية: روابط التجارة الثنائية ومتعددة الأطراف، الروابط الائتمانية (سواء العدوى المباشرة أو أثر الطرف الآخر)، الروابط المالية، وتلك تتضمن: تدفق المعلومات، سلوك القطيع، السيولة، إعادة التوازن إلى الحافظة، اتصالات الإيقاظ، المطالبات المتداخلة، دائنى البنوك.
وقبل أن نتناول بالشرح أبرز تلك الروابط ونورد لها بعض الأمثلة، سوف أعرج سريعا على عدد من الأزمات العالمية الشهيرة، والتى منها ما عايشه الكثيرون من قراء هذا المقال. أزمة النمور الآسيوية (كما عرفت إعلاميا) انطلقت بين عامى 1997 و 1998 بدأت كأزمة فى صناديق التحوط وانتقلت عبر قنوات سوقى المال والصرف من دول شهدت عملاتها انخفاضا كبيرا وسريعا فى قيمتها مثل تايلاند لتمر باندونيسيا والفلبين وكوريا الجنوبية وماليزيا، وحتى تشيلى!.. وينشأ عنها أزمة عالمية واسعة مركزها جنوب شرق آسيا. جاء عقب ذلك مباشرة ما عرف بالأزمة الروسية عام 1998 حيث تسبب التعثر الروسى فى أزمات بكثير من الاقتصادات المنتقلة أو المتحولة (التى انتقلت من الشيوعية والاشتراكية إلى الرأسمالية) ودول أمريكا اللاتينية، حتى إن سوقى الأسهم والسندات قد شهدت تضررا كبيرا فى مجموعة دول G7 وكثير من دول أوروبا.
***
فى تاريخ ما بين الحربين العالميتين أيضا عدد من الأزمات التى اتسعت رقعة الإصابة بها بفعل قنوات العدوى المالية. أزمة الكساد الكبير المعروفة والتى يؤرخ لها عادة بعام 1929، نشأت فى صورة انهيار بورصة لندن، سرعان ما امتد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، ألمانيا...ثم سائر بورصات أوروبا. أعقب ذلك أزمات مصرفية فى الولايات المتحدة وايطاليا والنمسا وألمانيا والنرويج. سرعان ما تعثرت دول أخرى، فشهد عام 1931 تعثر بوليفيا، البرازيل، تشيلى، جمهورية الدومنيكان، إكوادور، بيرو. وبحلول عام 1933 تعثرت معظم دول أمريكا اللاتينية (باستثناء الأرجنتين)، وكثير من دول وسط أوروبا مثل: النمسا، بلغاريا، ألمانيا، اليونان، المجر، رومانيا ويوغوسلافيا.
لكن حالات التعثر التى انتقلت عبر أنماط تشبه العدوى بالأمراض لها تاريخ أقدم، ففى عام 1826 يمكن أن ترصد أول أزمة مديونية فى تاريخ أمريكا اللاتينية الحديث. فى ذلك العام تعثرت بيرو، أعقبها كولومبيا العظمى (التى كانت تضم كولومبيا وفنزويلا وبنما وإكوادور وشمال البرازيل وشمال بيرو..) وبحلول عام 1828 انتقلت عدوى التعثر إلى سائر دول أمريكا اللاتينية باستثناء البرازيل.
كذلك فترة الركود العالمى التى امتدت بين عامى 1873و 1879 بدأت بانهيار البورصتين الألمانية والنمساوية فى مايو 1873 ثم سرعان ما انتقلت إلى إيطاليا وهولندا وبلجيكا ثم تعبر الأطلسى فى سبتمبر وتقفل عائدة لتضرب أسواق انجلترا وفرنسا وروسيا، وبحلول عام 1876 تعثرت الإمبراطورية العثمانية ومصر واليونان وثمانى دول من أمريكا اللاتينية!
تاريخ طويل من الأزمات التى تضرب العضو الأضعف فى منظومة اقتصادية ما، ثم تنتقل العدوى إلى دول الجوار الإقليمى، ومنها إلى الدول الأكثر انفتاحا على هذا الإقليم عبر قنوات التجارة والاستثمار والعمالة. يستثنى من ذلك مجموعة من الدول التى تتمتع بقدر من المناعة نظرا لضعف تشابكاتها الاقتصادية الخارجية، أو لمتانة أسسها الاقتصادية الكلية، وقلة اعتمادها على الديون.
***
كيف تعمل تلك القنوات إذن؟ فبالنسبة لقنوات روابط التجارة، فعادة ما يكون تخفيض قيمة العملة الهادف إلى تعزيز تنافسية منتجات إحدى الدول المصدرة سببا فى خلق قناة للعدوى. وإذ تخفض الدول الأنشط تجارة مع دولة تخفيض العملة أو التعويم كرد فعل مباشر فهذا ما يمكن أن نسميه عدوى مباشرة طوعية، لكن فى حالات الطرف الثالث نجد أن البرازيل والأرجنتين كانتا أكثر دولتين تأثرا بما عرف بأزمة التيكيلا فى المكسيك نهاية التسعينيات من القرن الماضى وذلك على الرغم من تواضع حجم التجارة بين الدولتين من جهة وبين المكسيك! هنا يتضح أن قنوات العدوى قد عملت من خلال طرف ثالث هو الولايات المتحدة التى تتمتع بميزان تجارة نشط مع كل من الأرجنتين والبرازيل، وقد تأثرت التجارة بين الولايات المتحدة والمكسيك بفعل تخفيض قيمة العملة المكسيكية، وترتب على ذلك آثار سلبية على دولتينا.
أما بالنسبة لقنوات المعلومات فهى تعمل بشكل أساسى بفعل تأثير تيار من المعلومات السلبية عن أسعار منتج مالى فى بورصة دولة الأزمة، سرعان ما ينتقل عبر قنوات المعلومات والتحليل الفنى والشائعات إلى منتج مالى آخر (ربما يكون سليم الأساس وقوى من وجهة نظر التحليل المالى) لكن طبيعة العلاقات بين الدولتين تسمح بنقل الأثر. هناك أيضا سلوك القطيع الذى تتميز به الأسواق التى لا تتمتع بأية كفاءة (وتتسم فى الغالب بعدم تماثل المعلومات أى ببساطة لا يتمتع مختلف الأطراف المتعاملة بالسوق بذات القدر من المعلومات حول الأصل المتداول) هنا يميل القطيع إلى تقليد الطرف الذى يعتقدون أنه يتمتع بمعلومات أوفر وأكثر دقة، وهذا ما نلحظه فى بورصات الدول النامية التى يميل فيها المتعاملون إلى تقليد الأجانب والمؤسسات فى تعاملاتهم بالبيع أو الشراء دون إدراك لسبب هذا التصرف أو ذاك. بالتأكيد تكلفة الحصول على المعلومات أصبحت مرتفعة ولا يتحملها فى الغالب سوى عدد محدود من المتعاملين ذوى الملاءة، الأمر الذى يجعل تقليد سائر المتعاملين الأفراد لهم أمرا له وجاهته ومنطقه.
***
هناك أيضا رابط السيولة لانتقال العدوى، فالطرف الذى تنقصه السيولة فى مرحلة معينة ويضطر إلى تسييل جانب من أصوله لسداد التزامات (ليكن التزامات الشراء بالهامش فى البورصة مثلا) يدفع الأطراف الأخرى الأقل حصولا على المعلومات حول الأصول إلى البيع سريعا خشية أن يكون البيع نتيجة لمعلومات سلبية عن الأصل محل البيع، وهذا أشبه فى عمله بسلوك القطيع وبتيار المعلومات السلبية. فى الأزمة الآسيوية كانت الأسواق المتضررة بفعل روابط السيولة هى هونج كونج وسنغافورة وتايوان، وهى الدول التى كانت أسواقها تتمتع بسيولة كبيرة ويتمركز بها عدد كبير من صناديق الاستثمار التى سرعان ما شهدت موجات كبيرة من البيع للوفاء بالتزامات فى أسواق أخرى تعرضت لأزمات انهيار العملة مثل تايلاند. وعلى الرغم من كون الاقتصاد الصينى أضعف أساسا من اقتصادات تلك الدول المتضررة، إلا أنها قد أصابتها لعنة السيولة، لأن المستثمر يمكنه أن يتخارج سريعا من الأسواق المتمتعة بالسيولة، ولا يمكنه أن يخرج بذات السرعة من أسواق دول مثل الصين. هذا الأمر يمكن أن يطلق عليه أيضا نداء الشراء بالهامش، وهو نداء شركات السمسرة المقرضة لعلمائها لسداد التزاماتهم نتيجة تراجع أسعار الأسهم الضامنة لتلك الالتزامات، وهو ما يترتب عليه موجة من البيع فى أقرب سوق تتمتع بالسيولة، وقد تضررت البورصة المصرية ذات مرة من هذا النداء الذى أطلقته شركات الوساطة المالية فى أسواق الخليج العربى ونتج عنه تقديم موعد فتح جلسة التداول لتكون فى موعد واحد مع بورصات الخليج حتى لا تتأثر البورصة المصرية بردود فعل لتعويض الخسائر فى أسواق مجاورة بعد أن يملك المستثمر الوقت لإحصاء خسائره..
أشكال مختلفة تعمل من خلالها روابط مالية وائتمانية لنقل عدوى أزمة مالية من سوق لأخرى، ومن منتج لآخر لا يتسع لها المقال، لكنها جميعا تؤكد على أن سرعة تدفق المعلومات فى العصر الراهن كانت سببا فى التعجيل باحتواء أزمة الرهن العقارى فى 2008، فعلى الرغم من تدخل البنوك المركزية، وتوافر إرادة أممية للتعامل مع الأزمة بحسم فقد كان من الممكن أن تطول مدة الدورة أو الأزمة سنوات حتى تتم عملها ويكتمل أثرها على غرار الأزمات المالية السابقة مطلع القرن الماضى ومنتصف القرن الأسبق، لكن تدفق المعلومات عجل بالانتشار وبالاحتواء أيضا، وهو ما يمكن أن نقوله عن الأزمة المالية التى تتشكل فى الأفق بفعل زيادة الديون وتجاوزها ثلاثة أضعاف حجم الناتج الإجمالى العالمى! لكن طبيعة العلاقات اليوم بين الدول الفاعلة على الساحة الاقتصادية تحرم العالم من التكاتف للتصدى للأزمة، ويعزز من فرص تفجير الصراعات وتبادل الاتهامات، والانكفاء حول الذات للتعامل مع أزمة عالمية بأدوات شديدة المحلية والمركزية!