كيف نقرأ قرار تثبيت أسعار الفائدة؟
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 25 سبتمبر 2023 - 7:05 م
بتوقيت القاهرة
عادة ما أتجنب السؤال الصحفى المتكرر: «ما هى توقعاتك لأسعار الفائدة فى اجتماع المركزى القادم؟». السبب ببساطة هو أنى أخشى أن يفهم الرد باعتباره محض رهان، فإذا تحققت توقعاتى كنت رابحا وإلا فقد خسرت!... وكذلك أخشى أن يؤخذ الرد فى سياق الرجاء، الذى ألتمس فيه قرارا مواتيا من قبل البنك المركزى.. الأمر ببساطة أن السؤال يحتاج إلى إيضاح فى المقام الأول، هل المقصود بتوقعاتى ما أرى أنه القرار الصحيح من قبل المركزى؟ أم المقصود: ما أعتقد أن المركزى سوف يميل إليه فى ضوء اعتبارات كثيرة لست بالضرورة مقتنعا بها؟. هنا يحدث الخلط والارتباك وتفشل التغطية الإعلامية فى الغالب فى إيضاح الأمور. شخصيا أميل فى جوابى (إن اضطررت أن أجيب) إلى المقصود الأول.
• • •
كل المتغيرات محليا ودوليا كانت ترجح إقدام البنك المركزى المصرى على مواصلة التشديد النقدى، بالمضى قدما فى رفع أسعار الفائدة فى اجتماعه المنعقد الخميس الماضى. فمن ناحية بلغت معدلات التضخم الأساسى فى أغسطس الماضى ما نسبته 40,4% سنويا، بينما بلغ معدل التضخم العام ما نسبته 39,7% سنويا. وهى معدلات مرتفعة للغاية تقترب من ضعف مثيلاتها المحققة فى العام الماضى، الذى سجلت فيه معدلات التضخم العام السنوية 15,3% بنهاية أغسطس. وتلك المعدلات تدعو البنوك المركزية إلى اتخاذ خطوات عاجلة تجاه التشديد.
كذلك جاءت الحزمة الرئاسية التى استهدفت تخفيف الأعباء عن كاهل المواطنين، بإجراءات ثمانية تعرضت للحد الأدنى للأجور للدرجة السادسة، ورفع حد الإعفاء الضريبى، وزيادة المستفيدين من برامج الحماية الاجتماعية، ومراعاة المتعثرين فى القروض والسلف الزراعية... إلى غير ذلك من إجراءات جيدة مراعية للبعد الإنسانى لكن من شأنها أن تزيد من حجم السيولة فى الأسواق، دون أن يقابلها إنتاج أو معروض جديد. هذا فى العموم يمثل أثرا تضخميا ناتجا عن صدمة فى جانب الطلب. لكن حجم تلك الحزمة والبالغ فى تقديرات وزير المالية 60 مليار جنيه، فضلا عن طبيعة ونمط إنفاق الفئات المستهدفة بالحزمة، يقلل من حدة واتساع الصدمة التضخمية الناتجة عنها فى الأسعار. ناهيك عن كون تلك الفئات (على الرغم من أنها تصل إلى 45 مليون مستفيد وفقا لتصريحات مسئولة) لابد وأنها تسدد مديونيات قائمة للتعامل مع التضخم الجامح منذ أكثر من عام على الأقل، الأمر الذى يعنى أن ضخ تلك الأموال فى الأسواق هو ضرورة، ولا يتوقع أن يكون واسع الأثر.
هذه الصدمة فى جانب الطلب عادة ما يتم التعامل معها باتباع سياسة نقدية متشددة، تتمثل فى رفع أسعار الفائدة، وطرح أصول مالية للبيع فى الأسواق لامتصاص فائض السيولة، لكن حتى ذلك الطرح لا يكون مجديا فى ظل مستويات أسعار فائدة حقيقية سالبة (بهامش كبير كما هى الحال اليوم) ، حيث تلتهم معدلات التضخم كامل الفائدة الاسمية على أدوات الدين، وتزيد معدلات التضخم على تلك الفائدة بنسبة كبيرة. إذن لا بديل عن رفع الفائدة للتعامل مع جانب التضخم المتسببة فيه صدمات الطلب.
وإذا كانت مصر قد استقبلت نحو عشرة ملايين ضيف خلال السنوات القليلة الماضية فى ظل تردى الأوضاع الإقليمية والعالمية، فإن هذا أيضا من شأنه زيادة الطلب الفعال (المدعوم بقوة شرائية) فى الأسواق، دون أن يقابله زيادة تذكر فى المعروض السلعى والخدمى، مما يؤدى إلى فائض طلب أو عجز فى المعروض يترتب عليه ارتفاع متزايد فى الأسعار. ومع كارثة درنة واستمرار الأوضاع الصعبة فى السودان لا يتوقع أن تقل التدفقات البشرية على مصر خلال الفترة القادمة، وهو سبب آخر لرفع أسعار الفائدة.
كذلك لم تنقلب بعد موجة التشديد النقدى فى الولايات المتحدة وأوروبا والتى تستهدف السيطرة على التضخم بأعلى الأثمان. فها هو الفيدرالى الأمريكى يرفع أسعار الفائدة إلى هامش بين 5,25% و5,5% على الرغم من اقتراب معدلات التضخم فى الولايات المتحدة من القيم المستهدفة (2%) ، حيث تخطى التضخم السنوى 3,7% فى أغسطس صعودا من 3,2% فى يوليو الماضيين. ومن المتوقع أن تشهد الفائدة ارتفاعا جديدا قبل نهاية العام بمقدار ربع نقطة مئوية على الأقل. وقد سارت على خطى الولايات المتحدة دول الخليج العربى، خاصة تلك التى تتبنى سياسة سعر صرف تقوم على الربط الجامد بالدولار. وكذلك أعلن المركزى الأوروبى فى يوليو الماضى عن رفع سعر الفائدة الرئيس للمرة العاشرة على التوالى، حيث رفع أسعار الفائدة على عمليات إعادة التمويل الرئيسية وتسهيلات الإقراض الهامشية بمقدار 25 نقطة أساس إلى 4,5% و4,75% على التوالى.
وتجدر الإشارة إلى أن العائد على سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات قد ارتفع بنحو 15 نقطة أساس ليصل إلى 4,492%، مسجلا أعلى مستوى له منذ عام 2007. كما ارتفعت سندات الخزانة لأجل عامين بأكثر من نقطتى أساس إلى 5,142٪، وهى مستويات لم تبلغها منذ عام 2006.
• • •
هذا كله من شأنه أن يضيف ضغوطا على عملات الدول النامية ومنها مصر. فالدولار الأقوى نسبيا (بسعر فائدة أكبر) يضغط على مستويات وخدمة الدين الخارجى لمصر، وعلى فاتورة الاستيراد من الخارج، ومن ثم على سعر صرف الجنيه مقابل الدولار، والذى تتسع الفجوة فيه بين السوق الرسمية والسوق الموازية بشكل متزايد، ولا مجال لتخفيف تلك الفجوة إلا بتدفقات كبيرة من النقد الأجنبى، سواء فى صورة استثمارات أو قروض طويلة الأجل أو ودائع أو حتى أموال ساخنة، تأتى لاقتناص أسعار الفائدة المرتفعة على الجنيه، والتى مازالت غير جاذبة فى ظل الارتفاع الكبير فى معدلات التضخم وفى توقعاته للعام المقبل، التى تأكل الفائدة الاسمية وتحولها إلى فائدة حقيقية سالبة كما سبق أن أوضحنا.
الفجوة بين سعرى الصرف فى السوقين الرسمية والموازية لن يتم التخلص منها إلا بالسماح للسعر الرسمى بأن يتحرك ولو قليلا بشكل أكثر مرونة. ذلك ما يطلبه صندوق النقد الدولى على أى حال، وما يصبو إليه أى مستثمر أجنبى تربكه حسابات الازدواج فى أسعار الصرف وتحقق له خسائر حتمية. لكن التحريك لن يكون مجديا فى غيبة قدر مناسب من السيولة الدولارية بحوزة الجهاز المصرفى، وتلك السيولة لن تأتى فى الأجل القصير جدا إلا هرولة خلف أسعار الفائدة المرتفعة. وقد شاهدنا كيف أقدمت محافظ البنك المركزى التركى الجديدة على رفع أسعار الفائدة فى مراجعتين متتاليتين (آخرهما منذ أيام) بـ1250 نقطة أساس لتبلغ 30%! وذلك فى محاولة للتعويض عن السياسة النقدية لسابقها، والتى كانت غير فعالة فى محاصرة التضخم ووقف انهيار الليرة أمام الدولار الأمريكى.
قرار المركزى المصرى يوم الخميس الموافق 21 سبتمبر 2023 بالإبقاء على سعرى عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزى عند مستوى 19,25%، 20,25% و19,75% على الترتيب، هو بمثابة تعقيم أو تحييد لأهم أداة من أدوات السياسة النقدية لحصار التضخم الجامح، وهو قرار يراعى اعتبارات المالية العامة (أو هيمنة المالية العامة على السياسة النقدية) حيث من المعلوم أن أى زيادة بواقع 1% فى متوسط الفائدة يكلف الحكومة نحو 28 مليار جنيه إضافية. ولا أعتقد أن القرار يأخذ فى الاعتبار رغبة المركزى فى محاصرة التضخم الناتج عن صدمات جانب العرض (أى صدمة فى الإنتاج أو أسعار الواردات أو سلاسل الإمداد..) إذ إن المستويات الحالية لأسعار الفائدة وحتى المستويات الأقل منها ليست جاذبة للاستثمار، ولم تساعد الجهاز المصرفى على توظيف فائض السيولة الكبير لديه بكفاءة.
وقد بلغت نسبة السيولة فى البنوك بالعملة المحلية للعام 2022 ما يقرب من 44,3% بينما بلغت بالعملة الأجنبية 78,4% وذلك على الرغم من أن النسبة الإلزامية بالجنيه المصرى هى 20% وبالعملات الأجنبية 25%. هذا الفائض غالبا ما يستهدف الإقراض الآمن ذا العائد الكبير والمتمثل فى مشتريات البنوك لسندات وأذون الخزانة المصرية، والتى يتم تمويلها بالإصدار النقدى ومن ثم مزيد من التضخم. لكن فائض السيولة بالبنوك لا يشبع احتياجات التمويل لقطاع الأعمال سواء العام أو الخاص، على الرغم من أنه الوحيد القادر على تحقيق مستهدفات النمو والتنمية الاقتصادية بمفهومها الشامل، حتى مع تحمله هامشا مقبولا من المخاطر «الطبيعية» التى تكتنف مشروعاته. تلك السياسة الائتمانية مرتعشة الأيادى، هى بعض ميراث من التشكيك فى هذا القطاع خلال حقب بالية مؤسفة، اشتهرت فيها قضايا تعثر ائتمانى عديدة، كقضية «نواب القروض» الشهيرة.
• • •
رفع الفائدة إذن يضر بالإنتاج من زاويتين، الأولى أنه يرفع تكلفة التمويل عن طريق رفع الفائدة على الإقراض. كما أنه يرفع من تكلفة الفرصة البديلة لأى مستثمر يريد أن يشترى أسهم فى شركات، لكنه يرى العائد البنكى شديد الإغراء، فيعرض عن الاستثمار (المباشر أو غير المباشر) ويكتفى بإيداع أمواله فى البنوك للحصول على عائد ثابت آمن، تدره الودائع أو الشهادات الادخارية أو غيرها من الأوعية. كانت استثمارات هذا الشخص بديلا تمويليا هاما للشركات القائمة والمزمع إنشاؤها أو تطويرها، لكن الفرصة البديلة فى استثمار أعلى إيراد أضاعت ذلك البديل أيضا.
لكن الرفع «البغيض» لأسعار الفائدة هو ضرورة فى الأجل القصير، حيث تتعطل مستهدفات الاستثمار حتى يتم السيطرة على التضخم الجامح. وعلى أى حال بعض تلك المستهدفات يمكن تحقيقها بسياسات مالية داعمة، وبصناديق تمويل ميسر للقطاعات الإنتاجية (لا يمولها البنك المركزى بالطبع)، حتى تمر الأزمة وتعود معدلات الفائدة المصرفية إلى مستويات جاذبة، مع ضرورة تخلص البنوك من سياسات الأيادى المرتعشة والحد من الإفراط فى إقراض الحكومة لسد العجز المزمن فى الموازنة.