الشرق الأوسط الجديد

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 25 سبتمبر 2023 - 7:10 م بتوقيت القاهرة

فى دراسة تعاود الإشادة باستقرار رسخته «معاهدة وستفاليا» عام 1648، فى ربوع أوروبا، بعد حرب الثلاثين عاما؛ ارتأى، باتريك ميلتون، وبرندان سايمز، أن منطقتنا، التى تربط أوروبا بأفريقيا وآسيا، وتستحوذ على ٤٦٪ من صادرات النفط، و٣٠٪ من صادرات الغاز المُسال، وتحوى٥٢٪ من الاحتياطى العالمى للنفط و٤٣٪ للغاز؛ فى مسيس الحاجة إلى نظام أمنى إقليمى جديد، يجمع دولها الوطنية ضمن صيغة «وستفالية شرق أوسطية».
ما إن وضعت الحروب النابليونية أوزارها عام 1815، حتى التأم مؤتمر فيينا، برئاسة مترنيخ مستشار النمسا؛ بغرض تسوية القضايا الناجمة عنها. ولما كان الدبلوماسى البروسى الأعرق، يؤمن أنه «لا سلام مع نظام ثورى»، و«لا سلام بغير توازن القوى والمصالح»؛ فقد أسفر المؤتمر عن إعادة رسم الخريطة السياسية للقارة العجوز. إذ تمخضت جهود مترنيخ عن وضع أسس نظام أوروبى جديد، منبثق عن تلك المبادئ الحاكمة. ومن ثم، تسنى للأوروبيين إرساء دعائم قرن كامل من السلام، امتد طوال الفترة من سنة 1815، وحتى اندلاع الحرب الكونية الأولى عام 1914. وبين ثنايا مؤلفه المعنون «الوهم الكبير»، الصادر عام 1910، توصل الباحث الإنجليزى، نورمان أنجل، إلى أن التكافل الاقتصادى المتنامى لدى القوى الأوروبية، كفيل بمفاقمة كلفة الحرب، إلى مستوى يتخطى قدرة الدول على خوضها.
تمخض مؤتمر هلسنكى، سنة 1975، عن «وثيقة هلسنكى»، الهادفة إلى إرساء دعائم جديدة لنظام شامل ودائم للأمن والتعاون الأوروبيين. وقد تضمنت تلك الوثيقة، خارطة طريق، لبلوغ تلك الغاية، كان من أبرز معالمها: تسوية الأزمات العالقة، ترسيخ الأمن والاستقرار، تغيير النمط الصدامى التصعيدى للتفاعلات القائمة، بناء الأمن والتعاون الأوروبيين، على قاعدة عريضة من التضامن المتعدد الجوانب، تدعيم الثقة العسكرية بين الدول الأوروبية، عبر اعتماد استراتيجيات الطمأنة وإجراءات بناء الثقة، عند إجراء المناورات العسكرية. مع بذل الجهود الممكنة لضمان ضبط التسلح، فى ظل رقابة دولية فعالة.
بعد ذلك بحولين كاملين، أصدر، جوزيف ناى، وروبرت كوهين، مؤلفهما المعنون: «القوة والاعتماد المتبادل»، الذى تضمن طرحين أساسيين: أولهما، أن الاعتماد الاقتصادى المتبادل سوف يعزز أواصر السلام والتعاون بين الدول، بحيث تغدو أمور من قبيل؛ النزاع، الصراع والحرب، ضربا من المستحيل؛ كونها ستؤدى إلى إيذاء الجميع. وثانيهما، أن الجنوح لاستخدام القوة، سيظل مرتهنا بمستوى «الحساسية»، أو «الانكشاف»، لدى كل دولة، إزاء الاعتماد على الدول الأخرى. غير أن الاعتماد المتبادل، يفسح المجال لتوازن قوى داخلى يحكم العلاقات الدولية. وهو توازن لا يقوم فقط على القوة الصلبة، وإنما أيضا على القوة الناعمة.
يعتقد، جيمس دورسى، المحلل السياسى المختص بشئون الشرق الأوسط، أن التعاون الدولى يساعد على تقليص احتمالات الانجرار إلى الصراعات المسلحة. فيما تحول استدامة خطوط الاتصال، دون تجاوز النزاعات والصراعات، نطاق السيطرة. الأمر الذى يسمح للمتنافسين بالتسابق، مع جنى ثمار التعاون الاقتصادى. وتنطلق «نظرية السلام الاقتصادى»، التى تسمى أيضا «السلام الرأسمالى»، و«السلام التجارى»، من فرضية فحواها، أن مجتمعات السوق تكون أقل ميلا إلى الانخراط فى صراعات عنيفة بين بعضها البعض. لأنها ترتبط بعلاقة اعتماد متبادل مربحة للطرفين؛ كما تفوق خسائرها المؤكدة من الحروب والمواجهات العنيفة، أى ربح محتمل. ويرى أنصار الليبرالية الاقتصادية، أنه كلّما زاد الرخاء، تفاقمت الخسائر جراء الحرب، وبالتالى انحسر الجنوح لخوض غمارها.
بدأت تلوح إرهاصات ما اصطلح على تسميته «الشرق الأوسط الجديد»، عقب مؤتمر مدريد عام 1991. وتزامنا مع توقيع «اتفاق أوسلو» عام 1993، طرح، شيمون بيريز، وزير الخارجية الإسرائيلى، آنذاك، رؤية للسلام بين العرب وإسرائيل تقوم على تعاون اقتصادى، يؤدى إلى تحقيق مصالح مادية مشتركة، تُذيب العداء بين الطرفين. وفى هذا الإطار، انطلقت مباحثات متعددة الأطراف بين إسرائيل وبعض الدول العربية حول قضايا التعاون فى مجالات الطاقة، المياه، نزع السلاح وغيرها. وبحلول العام2020، لاح التحول من «السلام الاقتصادى»، إلى «السلام الإبراهيمى». وقبل قليل، اكتسى غلاف مجلة «الإيكونوميست» البريطانية، بعنوان: «الشرق الأوسط الجديد: الفرص والمخاطر». وخلص العدد إلى أن الغرب سيتعامل مع المنطقة بواقعية لجهة قضيتى الديمقراطية والإسلام السياسى. وسيحاول لجم تقارب دولها مع كل من الصين وروسيا. وسيركز على شرق أوسط «ضيق» يضم إسرائيل ودول الخليج، الذين يسهمون بنحو٦٠٪ من الناتج المحلى الإجمالى، و٧٣٪ من الصادرات السلعية، و٧٥٪ من الاستثمارات متعددة الجنسيات.
لقد استبطنت تلك الطروحات محاولات لفرض تصور إسرائيلى للسلام، برداء اقتصادى، يتجنب الخوض فى الخلافات السياسية العميقة والمزمنة. وهو تصور تدعمه واشنطن؛ المتلهفة إلى إعادة هندسة إقليم الشرق الأوسط، على نحو يعظم حضورها فيه كقوة عظمى مُهيمنة، ويعينها على محاصرة التغلغل الصينى والروسى فى جنباته، كما يخولها تموضعا جيواستراتيجيا مميزا بمنطقة الإندو ــ الباسيفيك.
يتحدث الإسرائيليون والأمريكيون، ومن ورائهم عرابو الواقعية السياسية، عن دور «البيئة السياسية» فى تغيير المحتوى الإقليمى لعملية السلام العربية الإسرائيلية. ويرصدون فى سبيل ذلك، نوعا من «الإقليمية الجديدة»، المرتكزة على أشكال شتى من التعاون، فى مجالات تتشابك فيها المصالح المشتركة. ويأتى ذلك الطرح ضمن سياق مقاربة «السلام الاقتصادى كبديل عن السلام السياسى». وهى التى دعت إليها إسرائيل منذ سنوات، وبدأت فى اتخاذ خطوات جادة بشأن مناقشتها وإقرارها، إبان اجتماع المنامة، أواسط‏ يونيو 2019. ذلك الذى دشن المقاربة الاقتصادية لخطة السلام الأمريكية، التى عرضها لاحقا، الرئيس الأمريكى السابق، ترامب، نهاية يناير 2020، وحملت عنوان «الخطة الأمريكية للسلام والازدهار بالشرق الأوسط». وبينما تختص «منظمة غاز شرق المتوسط»، بالتعاون فى مناحى الطاقة، ناقش «لقاء النقب»، الذى جمع وزراء خارجية مصر، إسرائيل، الإمارات، البحرين، والمغرب، فى مارس 2022، قضايا تعاونية عديدة، أبرزها مبادرة «الماء مقابل الكهرباء». ولم يبتعد هذا التوجه عن مبادرات أخرى بشأن «الشام الجديد»، وتزويد لبنان بالغاز، عن طريق خط الغاز العربى. مرورا بترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان، تمكين الفلسطينيين من التنقيب عن الغاز والنفط قبالة سواحل غزة، برعاية أمريكية. وصولا إلى الممر الاقتصادى اللوجيستى، الذى طرحته قمة مجموعة العشرين الأخيرة، لربط الهند والشرق الأوسط بأوروبا، وهندسة شرق أوسط أكثر تكاملا.
الملفت فى تلك المقاربات المقترحة، أنها تركز على المغانم الاقتصادية، دون التماس حلول ناجزة وعادلة للتحديات السياسية التى تعرقل تنفيذها، أو استدامتها. هذا، بينما يفصح تاريخ العلاقات الدولية عن صعوبة نجاح هكذا طروحات، دون تسوية دائمة وشاملة للأزمات والصراعات التاريخية العالقة، وفى القلب منها القضية الفلسطينية. فعشية اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، بلغ معدل نمو الناتج المحلى فى الضفّة والقطاع 9%، وفى إسرائيل 7%، لكنه لم يمنع تجدد التوترات، ولم يحل دون مواصلة الشعب الفلسطينى نضاله ضد الظلم والإذلال، كما لم يردع آلة القمع الإسرائيلية عن ممارسة وحشيتها المعهودة.
فى سفره المعنون: «استعادة العالم»، الصادر عام 1957، أرجع الدبلوماسى والمفكر الأمريكى الأبرز، هنرى كيسنجر، نجاح بريطانيا فى الحفاظ على السلام الأوروبى، طوال الفترة من (1815 ــ 1914)، إلى اعتمادها نهجا دبلوماسيا لتسوية النزاعات. وفى مؤلفه الشهير: «مشروع للسلام الدائم»، الذى أصدره عام 1975، ذكر الفيلسوف الألمانى، كانط: «أن السلام الذى يفرض بالقوة والقهر، أشبه بالهدوء الذى يخيم على المقابر؛ ومآله الفشل الذريع».
وبناءً عليه، ستبقى المقاربات المتعلقة بالشرق الأوسط الجديد، أسيرة الإخفاق، ما لم تلامس توافقات سياسية ترسخ لتوازن القوى، وتوازن المصالح. وتتيح تسوية عادلة وشاملة ومستدامة، لكل النزاعات والخلافات المزمنة. كما تضع نهاية لمختلف أشكال التدخلات الأجنبية فى الدول العربية. فحينئذ، يمكن ترسيخ أسس نظام أمن إقليمى، يضمن بيئة مواتية للتعاون والاعتماد المتبادلين، ويوفر الآليات الكفيلة بالتعاطى الناجز مع شتى التهديدات والتحديات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved