المقامرة التركية
عز الدين شكري فشير
آخر تحديث:
الأحد 25 أكتوبر 2009 - 12:35 م
بتوقيت القاهرة
أدارت تركيا علاقتها بالغرب بشكل يختلف تماما عن النموذج الصينى. فبعد أن هُزمت الإمبراطورية العثمانية وتفككت فى الحرب العالمية الأولى، واحتل الغرب إسطنبول واتفق على تقسيم تركيا نفسها لعدد من الدويلات، قاد أتاتورك بلاده فى حرب ضروس ضد الدول الغربية، أعقبها بمفاوضات فى غاية العملية، نجح من خلالهما معا فى الحفاظ على وحدة الدولة التركية الحديثة. ثم انتقل بتركيا للجانب الآخر تماما، واختار نموذجا فريدا فى علاقة الدول المسلمة بالغرب وهو الاندماج الكامل.
وعلى مدى سبعين عاما، فعلت تركيا كل ما يمكن فعله كى تتحول لدولة غربية؛ كتبت لغتها بالحروف اللاتينية ــ محدثة قطيعة بين الجيل الجديد والتراث التركى المكتوب، واتخذت إجراءات قاسية لفصل الدين عن الدولة. كما «هاجرت» من الشرق الأوسط؛ تعالت على العرب (وربما تكون هذه هى السياسة الوحيدة التى استمرت من العهد العثمانى!) ونأت عن التورط فى مشكلاتهم، وساعدت بريطانيا وأمريكا فى مشروعات متعددة لحصار الدول العربية واحتوائها، كحلف بغداد والحلف المركزى. ثم تطوعت ببناء تحالف غير رسمى مع إسرائيل وإيران (قبل الثورة الإسلامية) يهدف لمنع العرب من تحدى السيطرة الغربية فى المنطقة.
ورغم هذا الإخلاص والتحمس لخدمة المصالح الغربية (الذى يفوق تحمس بعض الدول الغربية نفسها) أساء الغرب معاملة تركيا. عاملتها الولايات المتحدة بخشونة ولم تساندها فى القضايا التى تهمها، بل وانحازت لأعدائها أحيانا مثلما فعلت بالنسبة للقضية القبرصية. ورفضت لوقت طويل طلب تركيا الانضمام لحلف الأطلنطى كيلا تضطر لتقديم ضمانات أمنية حقيقية لتركيا أمام التهديدات السوفيتية. وظلت الدول الأوروبية متشككة إزاء تركيا ونواياها، ورغم عضوية تركيا فى عدد من المحافل الأوروبية الدفاعية منذ الستينيات، إلا أن الدول الأوروبية ظلت تماطل وتسوف فى طلبها الانضمام كعضو للجماعة الأوروبية (والذى تقدمت به رسميا فى عام 1987). وفى حين انضمت للاتحاد الأوروبى دول أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أسوأ من تركيا بمراحل، ظلت تركيا واقفة على الباب. راضتها الدول الأوروبية بمزايا اقتصادية، لكنها لم تقبل بها بعد كواحدة منها.
هل نجح النموذج التركى؟ نعم، ولا. فقد مكَّن تركيا من بناء نفسها كدولة حديثة تفوق قدراتها أى من الدول العربية، ونجح فى حماية تركيا من المطامع السوفيتية فى ممراتها المائية الإستراتيجية. واقتربت تركيا أكثر من أى دولة عربية من حل مشكلة عداء الغرب وخوفه من تنامى القوة العربية الإسلامية. إلا أن هذا النجاح غير مكتمل، وعدم اكتماله قد يقود لانهياره.
فبعد سبعين سنة خدمة على موائد الدول الغربية، وبعد أن جلس كل الواقفين وظلت وحدها بلا مقعد، عادت تركيا إلى الشرق الأوسط العربى. عادت لأن الرفض الأوروبى المتكرر ساهم فى دفع غالبية الشعب التركى نحو استعادة هويته الإسلامية، ولأن النخبة الحاكمة فى تركيا قررت استخدام المنطقة العربية كقاعدة نفوذ لتحسين قدرتها على مساومة الغرب.
عودة الشعب التركى لهويته الإسلامية كتب عنه الكثيرون، ومن ثم أريد أن أركز على الجانب الآخر من المعادلة، وهو استخدام تركيا للمنطقة كأداة للمساومة مع الغرب. اتبعت تركيا فى ذلك الروشتة التقليدية. أولا: أدانت العدوان الإسرائيلى على الفلسطينيين بقوة، وتشاجر أردوجان مع بيريز علنا، ومنعت إسرائيل من الاشتراك فى مناورة لحلف لأطلنطى بتركيا (وبذلك مسحت من ذاكرة الجماهير العربية ماضيها الأسود فى التحالف الإستراتيجى مع إسرائيل).
ثانيا: حسنت علاقتها بسوريا والعراق وإيران مع الحفاظ على علاقات هادئة بالسعودية ومصر بما يسمح لها بالاستفادة من مزايا العمل مع كل من معسكرى التشدد والاعتدال. ثالثا: نشطت فى مجال المصالحة فى المنطقة بين الأطراف المتخاصمة (وما أكثرها)، بحيث تصبح عنوانا يذهب إليه الجميع، بما فى ذلك الدول الغربية. ورابعا، تواصل بنشاط التفاوض مع الاتحاد الأوربى على شروط انضمامها المحتمل لصفوفه، مشيرة ــ مثلما لوح أردوجان منذ عدة أيام ــ لدورها الجديد فى قيادة الشرق الأوسط نحو الاستقرار، وبأنها بذلك ستشارك فى حمل أعباء أوروبا (فى المنطقة) إن تم قبولها.
نموذج الاندماج كان عالى التكلفة، وغير مكتمل النتائج. واليوم، تقامر تركيا من أجل إكمال نتائجه. قد تكسب الرهان إن قبلها الغرب فى صفوفه بسرعة كافية. لكنه إن تلكأ أو صدق أن سياسة تركيا الجديدة هى عودة حقيقية للشرق الأوسط، أو إذا دفع الإسلاميون الأتراك الأمر خارج حدود السيطرة، فقد تخسر الرهان ــ وسبعين سنة من محاولات الاندماج ــ وتجد نفسها وقد تحولت لما كانت تتفاداه: دولة إسلامية غير عربية فى الشرق الأوسط، يتخوف منها الغرب ويعادى تنامى قوتها.
www.ezzedinechoukri.com