بين قناة السويس والقطب الشمالي
محمد السماك
آخر تحديث:
الأحد 25 أكتوبر 2009 - 4:27 م
بتوقيت القاهرة
قد يبدو الحديث عن العلاقة بين قناة السويس والقطب الشمالى حديثا غريبا. ولكنه واقعى. فمستقبل القناة رهن بالتغيّر المناخى الذى ساعد لأول مرة فى التاريخ على فتح طريق بحرى عبر المياه القطبية الشمالية بين أوروبا وآسيا.
ويختصر الممر الجديد المسافة التى تجتازها بواخر الشحن بين القارتين سواء من حيث الوقت أو من حيث التكاليف.
لقد اكتسبت قناة السويس أهميتها فى التجارة العالمية لأنها اختصرت المسافة من أوروبا إلى آسيا وبالعكس. فلم تعد السفن مضطرة للدوران حول القارة الأفريقية. أما الآن فان ارتفاع حرارة الأرض وذوبان الجليد القطبى، أديا إلى فتح ممرات بحرية أمام حركة السفن بحيث تغنيها فى المستقبل القريب عن سلوك قناة السويس.
وقد دشنت سفينتا شحن ألمانيتين اجتياز هذه الممرات الجديدة من أوروبا إلى اليابان، ولم تحتج السفينتان إلى مساعدة من كاسحات الجليد، إلا لمسافات قصيرة جدا. علما بأن الممر القطبى كان حتى سنوات قليلة مضت مقفلا تماما.. وبعيدا عن أى تصوّر بأن يفتح أمام حركة السفن التجارية (والعسكرية).
طبعا ليس الجليد هو العائق الوحيد أمام الملاحة الدولية المفتوحة عبر القطب الشمالى. فالممرات البحرية إن لم يكن معظمها يقع داخل مناطق خاضعة للسيادة الروسية، فإنه قريب منها، أو متداخل معها. ومن شأن ذلك أن يطرح إشكاليات دولية بالغة التعقيد، خاصة أن الحدود ليست مرسومة بشكل واضح بين الدول القطبية ومنها الولايات المتحدة وكندا.
وثمة عامل آخر يزيد الأمر صعوبة، وهو أن هذه الممرات قريبة من حقول النفط والغاز السيبيرى الذى يشكل العمود الفقرى للاقتصاد الروسى. وكانت روسيا قد بادرت فى العام الماضى إلى رفع علَمها فى القطب الشمالى معلنة بذلك خضوعه أو إخضاعه للسيادة الروسية، وهو أمر استهجنته الولايات المتحدة وكندا فى حينه، واعتبرتاه مع الدول القطبية الأخرى محاولة من جانب واحد لرسم الخريطة السياسية فى منطقة متنازع عليها. ولم تكن القضية موضوع نزاع على الممرات القطبية، ولكنها كانت قضية الثروة الضخمة من الطاقة التى يعتقد العلماء أنها كامنة فى أعماق المياه الجليدية..
ورغم كل هذه الإشكاليات المتداخلة والبالغة التعقيد، فليس من السابق لأوانه طرح علامة الاستفهام الكبيرة حول الانعكاسات المباشرة على قناة السويس إذا ما ــ أو عندما ــ تتفق هذه الدول المعنية على تسوية تفرضها مصالحها التجارية المشتركة بتنظيم حرية الملاحة فى الممر البحرى الجديد بين أوروبا وآسيا، والذى يشقه عبر الجليد ارتفاع حرارة الأرض.
إن النمو الاقتصادى الكبير فى شرق آسيا، وخاصة فى الصين واليابان وكوريا الجنوبية، وتضخّم حجم التبادل التجارى بين هذه الدول والاتحاد الأوروبى يجعل من الممر البحرى عبر القطب الشمالى ممرا حيويا لا يقلل من الحاجة إلى قناة السويس فقط، ولكنه يعيد رسم خريطة طرق الملاحة التجارية فى العالم.
وإذا كان ارتفاع حرارة الأرض تسبّب فى وقوع كوارث طبيعية وبيئية خطيرة، حتى إنه يخشى أن يغمر ارتفاع منسوب مياه البحار الكثير من الشواطئ لتبتلع مدنا وحتى دولا (المالديف مثلا)، إلا أنه لا يخلو من الحسنات. من هذه الحسنات أن ذوبان الجليد القطبى يفتح ممرا بحريا جديدا بين الشرق والغرب. ولكن حتى لا تكون الفائدة من هذا الممر القطبى مصيبة على دول شرق أفريقيا.. وعلى دول جنوب شرق آسيا، وتحديدا على مصر وقناة السويس، فلا بد من التحسب لما تحمله هذه المتغيرات من مفاجآت ولما قد تفرضه من وقائع اقتصادية واجتماعية وحتى سياسية. ذلك أن الحكمة تقتضى الاستعداد المسبق لهذه المتغيرات وعدم الانتظار حتى تصبح مفاعيلها أمرا واقعا. وفى تقدير العلماء فإنه بعد حوالى عشر سنوات من الآن، فإن ذوبان الجليد سوف يؤدى إلى فتح ممرات واسعة أمام الملاحة البحرية.. كما أنه سوف يفتح آفاقا واسعة أيضا أمام استغلال الثروات الدفينة من النفط والغاز وهذه حسنة أخرى لذوبان الجليد.
ومن شأن ذلك أن يحدث انقلابا فى العلاقات الدولية سواء على مستوى الاتصال.. أو على مستوى المشاركة التجارية والاستثمارية. فكيف ستتصرف دول المجموعة العربية؟
عندما اكتشف البرتغاليون والإسبان الطريق البحرى من أوروبا إلى الهند والصين حول أفريقيا، نزلت «طريق الحرير» عن عرشها المتوج شريانا للتجارة بين الشرق والغرب.. وفقدت أهميتها تدريجيا حتى أصبحت اليوم أثرا بعد عين.
وعندما فتحت قناة السويس أمام حركة التجارة العالمية، فقدت مرافئ دول غرب أفريقيا دورها.. وفقدت بالتالى مصدر رزقها لتتحول فى معظمها إلى مرافئ للصيد.
لم تتكيف هذه الدول مع المتغيرات التى استجدّت فى حينه، ولم تستعد للتعامل مع نتائجها الطبيعية، ولم تطوّر سياساتها لاستيعاب التحولات التى تفرضها، ولقد تمثلت نتائج ذلك كله فى القول المأثور: «مصائب قوم عند قوم فوائد».
ولو أن موسكو كانت تعرف الثروة المدفونة تحت الجليد، لما بادرت فى عام 1867 إلى بيع ألاسكا إلى الولايات المتحدة. لقد جرت صفقة البيع بمبادرة روسية. وحصلت الولايات المتحدة على ألاسكا بكامل مساحتها التى تبلغ 586،400 ميلا مربعا (خمس الولايات المتحدة) بقيمة 7،2 مليون دولار فقط. أى بمعدل 2 سنت للهكتار الواحد.
ما كان لروسيا القيصرية أن تتخلى وبهذا السعر الزهيد عن ألاسكا إلا بعد هزيمتها فى حرب القرم، وبعد إدراكها أنها أصبحت عاجزة عن حماية مستعمراتها البعيدة، مؤثرة التخلّى عن ألاسكا بكرامة مقابل تأكيد سيطرتها على آسيا الوسطى. إلا أن تملّك الولايات المتحدة لألاسكا، جعل منها دولة قطبية.. وهو ما يعطيها اليوم الحق فى المطالبة بحصتها من ثروة القطب من النفط والغاز.. ومن حق المشاركة فى السيادة على الممرات البحرية المستجدة بين الشرق والغرب.
ففى ذروة الصراع الروسى ــ البريطانى، والتنافس البريطانى ــ الفرنسى، والانكفاء الروسى على الداخل، تخلّت روسيا عن ألاسكا، وتمسكت بريطانيا بدرّة تاجها فى الهند، وبادرت فرنسا إلى حفر قناة السويس فى مصر. فيما توجهت الولايات المتحدة جنوبا لحفر قناة بنما التى تربط بين المحيطين الأطلسى والباسيفيكى.
كان الجليد القطبى يقفل الطريق البحرى بين روسيا وألاسكا.. والولايات المتحدة. أما ذوبانه فإنه سيفتح قريبا ممرا مباشرا بينها. إلا أنه فى الوقت ذاته سوف يفتح ملف الصراع على ما تحت الجليد من ثروات طبيعية!
لقد تغيّرت شبكة العلاقات الدولية من خلال قناة السويس، ومن خلال قناة بنما.. ولابد أن تتغيّر مرة أخرى من خلال الممرات البحرية القطبية التى يشقها الارتفاع المضطرد فى حرارة الأرض.
والسؤال هو: كيف نستعد لمواجهة المتغيرات المقبلة؟