الخلاف الفقهى.. رؤية حضارية
ناجح إبراهيم
آخر تحديث:
الجمعة 25 أكتوبر 2019 - 9:25 م
بتوقيت القاهرة
• «التعامل الحضارى فى إدارة الخلاف الفقهى، أنتج ثروة فقهية عظيمة لا مثيل لها فى تاريخ البشرية، وأثمر رحمة بين العباد وتعايشًا بينهم فى جو آمن يسوده الحب والرحمة والسلام، ولا زلنا نرث هذا الرقى الحضارى جيلًا بعد جيل، حتى نبتت فى أمتنا نابتة سوء انتهجت منهج الخوارج، وجعلوا من الفروع الفقهية أصولًا عقدية، كفَّروا بها كل من خالفهم».
• هكذا بدأ مفتى الجمهورية د/ شوقى علام المؤتمر العالمى الخامس لهيئات الإفتاء فى العالم والذى يعقد كل عام فى القاهرة ليطرح معضلة عالمية عامة تخص الفقه والفتوى والإفتاء.
• ويتطور المؤتمر سريعا من عام إلى آخر ليحافظ على المكانة العالية التى تبوأتها دار الإفتاء المصرية خاصة والإفتاء المصرى عامة طوال مئات السنين والذى نجح مرارا وتكرارا فى أن يجمع بين الواجب الشرعى والواقع العملى جمعا لا يضيع واجبات الدين ولا يصطدم بالواقع أو يجافيه أو يتغافل عنه، وتمتع بالوسطية مع الفاعلية، ولم يشدد يوما على الناس.
• بدا المؤتمر رائعا من اختيار عنوانه وهو «الإدارة الحضارية للخلاف الفقهى» وحتى ختامه بالإعلان عن «وثيقة التسامح الفقهى والإفتائى» وهى وثيقة فريدة فى عنوانها ومضمونها ولو طبقت لحلت مشكلات عويصة تعانى منها أمتنا منذ زمن.
• وعنوان المؤتمر ووثيقته الختامية تعد صياغات نادرة وغير مسبوقة للإدارة الصحيحة للتنوع والاختلاف الفقهى والإفتائى، بحيث يصب هذا الاختلاف الذى هو سنة كونية وشرعية لصنع منظومة حضارية وأخلاقية وتسامحية رائعة، وبحيث يدعم هذا الاختلاف الفقهى التماسك الاجتماعى المعاصر، وعمران الكون والإسهام الفعال فى الحضارة الإنسانية المعاصرة، وبحيث يكون بابا للبناء لا الهدم، وقبول التعددية الفقهية ورفض التمحور المرضى حول الذات والأنا.
• لقد حث المؤتمر على تحديد الأصول الحضارية للتعامل مع الخلاف الفقهى، مع تجديد النظر للخلاف الفقهى ليكون حلا للمشكلات المعاصرة وليس تعقيدا لها، وبحيث يكون تعدد الآراء الفقهية موطن ثراء للفقه وإثراء للحياة، وسعة على البلاد والعباد، بحيث يختار كل بلد من الآراء ما يناسب واقعه ومجتمعه.
• لقد كان من حسنات المؤتمر إعلان اليوم العالمى للإفتاء، وهذا سيعطى دفعة هائلة لعلوم الفتوى التى تغيب اليوم عن إذهان الخواص قبل العوام.
• كما أعلن المؤتمر عن تدشينه لمركز «سلام» لدراسات التشدد والتطرف.
• وأحيا المؤتمر ذكرى الإمام والفقيه العظيم القرافى، وذلك بعمل جائزة كبرى باسمه «جائزة الإمام القرافى للتميز الإفتائى» والتى ستمنح كل عام لكل من تميز فى علوم الإفتاء تنظيرا وتطبيقا.
• والقرافى لمن لا يعرفه من أعظم فقهاء الإسلام علما وفكرا وإفتاء وقضاءً وهو الذى وضع مئات النظريات الفقهية التى سبق بها عصره وزمانه وصاغها بأروع أسلوب.
• ومن أعظم ما اهتم به المؤتمر إعادة ترسيخ فقه المقاصد الذى دشته العلامة الشاطبى بعد أن رسخه من قبل الصحابة والتابعون فى كل أقوالهم وتصرفاتهم، فقد أعاد المؤتمر فقه المقاصد للصدارة لتكون ميزانا ضابطا للفقه الإسلامى ومرجعا منهجيا لإدارة الخلاف الفقهى وحسم الاختيارات الفقهية لكل مجتمع.
• كما أعاد المؤتمر الاعتبار لمراعاة فقه المآلات وترتيب الأولويات وقراءة فقه الواقع وكل أصوليات وأخلاقيات إدارة الخلاف الفقهى، والتى غابت عن خواص العلماء والدعاة فضلا عن العامة والناس الذين تشاتموا وتلاسنوا بل وشرعنوا التفحش ما دام ضد الخصوم السياسيين أو المذهبيين حتى استباح بعضهم بعضا دون شعور بذنب أو إثم.
• لقد بدت كلمات الإمام الأكبر د/أحمد الطيب رائعة كعهدنا به وإن حال المرض دون أن يلقيها بنفسه فتليت نيابة عنه، ومنها: «الاختلاف والتعدد من سنن الله فى خلقه وعلينا أن ننظر إليهما نظرة حضارية ترتكز على التسامح والإفادة وعمران الكون.
• «نحتاج لجهود حثيثة لتنزيل الأحكام الشرعية على واقعنا بمعطياته تنزيلا يليق بقدسية الأحكام دون إفراط يدفع إلى التشدد الذى يقود للتطرف والإرهاب أو تفريط يؤدى إلى الاستهانة بالدين».
• «التسامح الفقهى لن يتحقق إلا إذا وجد سلام نفسى وتسامح داخلى يعززه».
• «ينبغى علينا نبذ التعصب المقيت والتقليد الأعمى حال التعامل مع القضايا الفقهية القديمة منها والحديثة ومراعاة الدرس المقاصدى فى الاجتهاد وصناعة الفتوى».
• وعاب فيها على طائفتين إحداهما «جماعات التشدد والعنف التى أوقدت نار الفتن والاحتراب بين المسلمين بآرائها الشاذة، والثانية التى بحثت عن كل رأى ساقط أو فكرة شاذة ملقاة على قوارع الطرق فقدمتها للناس على أنها من الدين وهو منها براء.
• أما قائد هذا العرس الفقهى د/شوقى علام المتواضع الودود فقد نوه إلى القواعد الذهبية التى صاغها الأئمة الأعلام لرسم المعالم الحضارية للاختلاف الفقهى والتى نأت به عن الجمود والجحود والفتنة وسلكت به مسالك المرونة والسعة واليسر ومنها «لا إنكار فى المختلف فيه»، «الخروج من الخلاف مستحب» وغيرهما.
• وذكر الحاضرين بعبقرية الإمام مالك الذى رفض عرض الرشيد المغرى بحمل الناس على مذهبه.
• وأزيد على قول المفتى الجليل: «والله لو عرض هذا على الذين يهاجمون الدين والإسلام والفقهاء لرحب بذلك فورا ولكنها روح الفقيه العظيم التى تعشق التعددية ولا تخاف منها وترى فيها السعة والمرونة والتيسير، وعلى كل الذين يشتمون الفقهاء بأنهم ديكتاتوريون أن يبحثوا عن الديكتاتورية الكامنة فى أنفسهم والتى تلبستهم طوال حياتهم، وكيف أنهم لا يقبلون رأى المخالف».
• وأردف المفتى قائلا «ما زالت أمتنا ترث هذا الرقى الحضارى حتى ظهر الخوارج فحولوا الفروع الفقهية أصولا عقدية كفروا بها من خالفهم، فتحول التفكير إلى تكفير، لا يعترف إلا بذاته، ولا يعتقد إلا فى نجاته وتطور التكفير إلى تفجير فسفكت الدماء الحرام، وانتشرت الفتن.
• ثم ختم ختاما رائعا «ها هى أمة الإسلام اليوم تصغى إليكم إصغاءها إلى ما يقوله الإمام أحمد بن حنبل فى فتنة خلق القرآن» وحقا نحن فى حالة فتنة ولا ابن حنبل لها، وانتكاسة ولا أبا بكر لها، وفوضى ولا ابن الخطاب لها، وفرقة ولا صلاح الدين الأيوبى لها.
• أما أروع الكلمات فقالها الشيخ الهميم رئيس الوقف السنى العراقى «قراءة الكلمات فى مصر لها مذاق مختلف ففى الزمن الاستثنائى لابد من ابتكار كلمات استثنائية، نحتاج لعزف منفرد على ضفاف القلب، وثورة معرفية بحجم زلزال ينقلنا من الفوضى والحرب إلى السلام «وأردف» لا يتحقق أى منجز حضارى إلا بالثنائيات سالب وموجب، ذكر وأنثى، خير وشر، والإشكالية ليست فى التعددية لأنها حاكمة للمجتمع والتاريخ ولكن الإشكالية فى إدارة التعدد والتنوع.
• أما مفتى الأردن د/الخلايلة فهتف غاضبا «متى كان فى فقهنا أن من يحرق نفسه أو يقتل نفسه شهيدا» وقال «ليست فوضى الفتاوى إنها فوضى أخلاقية وصراع تيارات أعمت العقول عن إدراك أدب الاختلاف.
• ولخص القضية الحبيب الجفرى «لب الإشكال هو نفوس أعيت أصحابها ونحن جميعا سنسأل أمام الله عن صياغة ما نقدمه لهذا الجيل».
• وأبرز ما صدره المؤتمر هو وثيقة التسامح الفقهى والإفتائى «وأوكل مهمة إلقائها لمفتى فلسطين الشيخ محمد حسن تكريما له ولفلسطين الجريحة، وأهم ما فيها:ــ
• تعترف الوثيقة بالمذاهب المعتبرة فهى مدارس علمية لها مراجعها وأصولها ولا ضير من تبنى أحدها أو التخير منها فقها وإفتاءً.
• الاختلاف سنة الله فى خلقه وهو باب للتنوع الثقافى والدينى والمعرفى يحترم ويستثمر لتطوير الاجتماع الإنسانى.
• نبذ التعصب المذهبى المهدد للمجتمعات الإنسانية والدول.
• جعل التجربة المذهبية معينا للإفادة وعونا للتقدم القانونى والاجتماعى والأخلاقى.
• مواجهة استغلال الاختلاف الفقهى لنشر الكراهية.
• تحية لفقهاء الإسلام العظام الذين فهموا النص الشرعى فهما صحيحا وفهموا واقعهم فهما دقيقا وأدركوا كيف يحققون المناط فينزلون الحكم المناسب على الواقع المطابق له مستخدمين فقه المقاصد والمصالح والمفاسد والمآلات والنوازل والأولويات فى عبقرية نادرة.