كيف سيغير الذكاء الاصطناعى الطب؟

خالد الشامي
خالد الشامي

آخر تحديث: الثلاثاء 25 أكتوبر 2022 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

الذكاء الاصطناعى هو مصطلح مستجد يصف قدرة الحواسيب الرقمية على محاكاة الذكاء البشرى فى قدرات الابتكار والتعلم والتطور بناء على معطيات ومعلومات وبيانات تزداد تعقيدا وكثافة بفعل الزمن.
مفهوم الذكاء الاصطناعى ظهر فى عام ١٩٥٦ كنتيجة لأبحاث العالم البريطانى ألان تورينج الذى استخدم حواسيب تحاكى الذكاء البشرى فى فك الشفرة الألمانية الشهيرة (Enigma) عام ١٩٤٣، مما ساهم لحد كبير فى إحداث تغيير عكسى فى مسار الحرب العالمية الثانية وصولا لاستسلام ألمانيا غير المشروط بعد سنتين بالضبط من فك تلك الشفرة المعقدة باستخدام حاسوب يزداد ذكاء مع الممارسة.
منذ ذلك الحين وحتى تسعينيات القرن العشرين تقدم مجال الذكاء الاصطناعى ببطء. لكن السنوات الأخيرة من القرن الماضى شهدت طفرات مذهلة فى تطور الحواسيب الذكية. ففى عام ١٩٩٧ فاز جهاز كمبيوتر على أعظم لاعبى الشطرنج فى العالم فى هذا الوقت «جارى كاسباروف». وفى العام نفسه شهد العالم أول تطبيق لنظام حواسيب يفهم اللغات البشرية وإنسانا آليا قادرا على الاستجابة لغرائز بيولوجية كالخوف والتشجيع والتأقلم مع متغيرات البيئة.
واليوم يدخل الذكاء الاصطناعى فى كل المجالات تقريبا، كالمجال العسكرى والأمنى، وجباية الضرائب، وتحليل الظواهر المناخية، والتسوق، والتعليم، فضلا عن تطبيقات تكنولوجية هامة يراها البشر بشكل متزايد فى مجالات متباينة كالملاحة الجوية والسيارات ذاتية القيادة، والتلحين الموسيقى وبطبيعة الحال الطب.
وبالرغم من أن دور الذكاء الاصطناعى فى الطب ما زال محدودا إلا أن دوره يتنامى باضطراد. فمثلا الحواسيب الذكية تستخدم الآن فى فحص صور الأشعات السينية والمقطعية والرنين المغناطيسى وغيرها بكفاءة تعادل إن لم تتفوق على قدرة أطباء الأشعة فى رصد الأورام المبكرة والكشف عن طبيعة التغيرات الطفيفة المصاحبة لها. كما تستخدم الحواسيب الذكية فى تحليل العينات المأخوذة من أورام المرضى فى التفرقة بين الأورام الحميدة والخبيثة والكشف عن الانتشار المبكر لخلايا سرطانية قليلة فى العقد الليمفاوية مثلا. وفى السنوات الخمس الأخيرة أظهرت أبحاث عن المناظير الضوئية المزودة بخاصية الذكاء الاصطناعى نتائج مثيرة عن قدرة تلك المناظير على التعرف على سرطانات الجهاز الهضمى فى مراحل مبكرة جدا، وبقدرة تزيد كثيرا عن قدرة جراحى المناظير المخضرمين فى رؤية الزوائد الصغيرة والتقرحات الطفيفة مما يمكن القيام باستئصال إجهاضى ناجح للورم السرطانى. ولا يقتصر دور الذكاء الاصطناعى فى الطب على تمييز الأنماط البصرية فقط، بل إنها تقوم بعمل لوغاريتمات تشخيصية وعلاجية لأمراض معينة تتطلب التعامل مع قاعدة بيانات كبيرة كتحليل الشفرة البيولوجية أو البروتينية لخلايا السرطان مثلا. ويتزامن هذا مع إدراك متزايد للخصائص الفردية للأمراض المعقدة كالسرطان والزهايمر وتصلب الشرايين مما يستدعى دخول الرعاية الصحية لمرحلة «الطب الدقيق» الذى يتعامل مع أى مرض، تشخيصيا وعلاجيا، على أنه حالة شديدة الخصوصية تتفاعل مع مريضة أو مريض شديد الخصوصية وراثيا ومناعيا وخلافه.
لكن التطبيق الأكثر شيوعا اليوم لهذه التكنولوجيا هى فى الهواتف والساعات الذكية المزودة بقدرة الذكاء الاصطناعى والتى يرتديها أو يحملها الكثيرون. هذه الأجهزة تقوم بالفعل، من خلال رصد دقيق ومستمر لمعدل ضربات القلب وإيقاعها، وضغط الدم وتذبذبه، ونسبة السكر فى الدم وتحركها صعودا وهبوطا، من التنبؤ بقرب حدوث أزمة قلبية أو سكتة دماغية أو غيبوبة سكر وإرسال إنذار مبكر لفرق الإسعاف أو الأطقم الطبية المعنية للتدخل ومنع حدوث طارئ يودى بحياة المريض أو يؤثر على صحته سلبا.
وفى المستقبل القريب ستدخل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى من خلال لوغاريتمات معقدة ومتغيرة فى الرصد المبكر لأمراض كثيرة، والتنبؤ بالأوبئة والجوائح، وتحديد الحاجة للعلاج (من عدمه) وتخليق عقاقير ذكية، وعلاجات موجهة تتفاعل بشكل ديناميكى مع تطور المرض تقدما وتراجعا وصولا إلى سيطرة أو شفاء لمعظم الأمراض المزمنة التى تصيب البشر فى زماننا و فى المستقبل.
الذكاء الاصطناعى ليست مجرد تكنولوجيا جديدة. بل هى تبشر بدخول البشرية عصر جديد لا تزال تضاريسه وتخومه تتحدد. مسيرة الإنسانية ستتغير بشكل غير مسبوق وتداعيات هذا التغيير مصيرية فى رأيى. وهذا التغيير فى مجال الطب يستدعى أسئلة ملحة لا تزال إجاباتها غير واضحة.
هل ستستطيع أجهزة الذكاء الاصطناعى القيام بالمهمة كلها فى وقت ما؟
إذا كانت الرعاية الطبية كشفًا وفحصًا وتشخيصًا ووقاية وعلاجًا تتبع لوغاريتمات رياضية، فهل تتحول الممارسة الطبية للأتمتة الكاملة؟
مهنة الطب قديمة قدم الإنسان نفسه. وهى المهنة الوحيدة التى توصف بأنها «مهنة إنسانية». وهى بالفعل تمارس فى سياق إنسانى. هل ستقوم الآلة بالتعاطف مع المريضة أو المريض وأهله؟ هل ستستطيع التعاطى مع مخاوفهم وقلقهم؟ هل سنستغنى فى يوم ما عن الأطباء والتمريض ونستبدلهم بأجهزة ذكاء اصطناعى تقوم بعملهم بكفاءة أعلى وكلفة أقل؟
كل هذه مخاوف شرعية، ومحاذير مشروعة. لكن بطبيعة الحال لن يكون هناك سوى طريق واحد لتطبيقات الذكاء الاصطناعى فى الطب، إلى الأمام. وعلى الجميع التعامل مع هذه الحتمية العلمية بحكمة وذكاء.
فالذكاء الاصطناعى وتطبيقاته الحالية والمنتظرة فى مجال الطب والعلاج يتطلب ضوابط أخلاقية وقانونية، وإعادة تأهيل المنظومة الطبية للتعامل مع هذا التطور غير المسبوق ومستجداته المتسارعة (دخول حواسيب الكم على الخط مثلا)، وبالطبع التعاون بين الدول والشعوب عبر الحدود السياسية والحواجز الاقتصادية لتسخير هذه التكنولوجيا الواعدة لخدمة سكان المعمورة فى كل ربوعها.

أستاذ مساعد علاج الأورام بكلية الطب بجامعة جونز هوبكينز

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved