الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا
قضايا إفريقية
آخر تحديث:
الجمعة 25 أكتوبر 2024 - 8:00 م
بتوقيت القاهرة
لا يزال أحد ملامح الصورة كما هو، فالكل يتدافع نحو إفريقيا، وعلى الرغم من اختلاف السياقات والأطراف المتنافسة؛ فإنه من المستحيل فهم تعقيدات عمليات التدافع الدولى الجديدة على إفريقيا دون النظر فى السياق العالمى اليوم. وعلى وجه الخصوص، يؤكد اعتماد ميثاق المستقبل الذى أقرته الأمم المتحدة مؤخرا أهمية تسليط الضوء على الشراكات العالمية لإفريقيا.
هذه الشراكات فى غاية الأهمية لمواجهة التحديات الملحة التى تواجه القارة، ابتداء من التركيبة السكانية والتحضر إلى البنية الأساسية والتحولات فى مجال الطاقة. ومن الواضح أن الدول الإفريقية تسعى بكل جهد إلى تنويع علاقاتها الدولية، والانخراط مع جهات فاعلة عالمية متعددة مثل: الصين والاتحاد الأوروبى وتركيا والبرازيل وقوى صاعدة أخرى. ويأتى هذا التحول فى وقت ينقسم فيه العالم بشكل متزايد، ويتسم بالتوترات الجيوسياسية مثل الحرب فى أوكرانيا والشرق الأوسط، والتى تؤثر أيضا فى إفريقيا. واستنادا إلى هذه الخلفية، تستكشف البلدان الإفريقية كيفية تسخير هذه الشراكات الخارجية لدفع تنميتها. وعليه فإن فهم التأثيرات المترتبة على هذه الشراكات أمر بالغ الأهمية للتنمية المستقبلية لإفريقيا. وهذا ما تحاوله هذه المقالة مع التركيز على تحولات النهج الصينى فى إفريقيا بعيداً عن سرديات القدوم الصينى الأول فى بداية الألفية.
• • •
يبدو أن الصين غيرت وجهها الإفريقى خلال الفترة القصيرة الماضية، وذلك على النحو التالى:
• شراكات استراتيجية: يسلط منتدى التعاون الصينى الإفريقى "الفوكاك" الضوء على الطبيعة المتطورة للعلاقات بين إفريقيا والقوى العالمية الكبرى. ففى حين تعهدت الصين بتقديم 51 مليار دولار كدعم؛ وهو ما يمثل انخفاضا عن الالتزامات السابقة؛ فإن هذا لا يزال يؤكد قوة العلاقة بين الصين وإفريقيا. ومع ذلك، فبعيدا عن الأرقام الرئيسية، هناك اعتراف متزايد بقدرة إفريقيا على التحرك. ويدفع القادة الأفارقة بشكل متزايد نحو ترتيبات تجارية أكثر توازنا، وضمان انفتاح سوق الصين على السلع الإفريقية تماما كما انفتحت الأسواق الإفريقية على السلع الصينية. وفى سياق المنافسة الجيوسياسية العالمية ــ وخاصة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا ــ توضح هذه الشراكة الأهمية الاستراتيجية لإفريقيا.
لقد تطورت العلاقة بين الصين وإفريقيا بشكل كبير على مر السنين، وتحولت من التركيز الاقتصادى فى المقام الأول إلى التركيز الآن أيضا على الشراكات السياسية الاستراتيجية. وقد أسهم استثمار الصين فى البنية التحتية الإفريقية، وخاصة من خلال مبادرات مثل مبادرة الحزام والطريق، بدور رئيس فى ترسيخ نفوذها فى القارة؛ ومع ذلك، فمع نضوج هذا الانخراط، نشهد تكاملا أعمق للأهداف السياسية جنبا إلى جنب مع المصالح الاقتصادية.
إن التركيز المتزايد على توجهات جديدة مثل «الشراكة التعاونية الاستراتيجية الشاملة» الممنوحة لبعض الدول الإفريقية ليس مجرد مسألة رمزية، ولكنه يحقق ثلاثة أهداف مترابطة:
(أ) إنه يعكس مقاربة سياسية متعمقة؛ مما يشير إلى تعزيز التعاون عبر قطاعات متعددة خارج الاقتصاد، مثل: الأمن والحوكمة والدبلوماسية الدولية.
(ب) كما أن المشاركة المتزايدة للصين فى المشهد السياسى فى إفريقيا تسمح لها بتأمين مصالحها الاقتصادية، مثل الوصول إلى المعادن الحيوية، فى حين تضع نفسها أيضا كشريك رئيسى فى أجندة التنمية فى إفريقيا.
(ج) إضافة إلى ذلك، يؤكد هذا التحول السياسى جهود الصين لموازنة النفوذ الغربى فى إفريقيا من خلال تقديم نموذج بديل للشراكة، متجذر فى عدم التدخل فى الشئون الداخلية والمنفعة المتبادلة. وفى نهاية المطاف، تم تصميم هذه الشراكة السياسية والاستراتيجية لضمان التعاون الطويل الأجل والاستقرار والتوافق مع الأهداف العالمية الأوسع للصين، وخاصة فى المشهد الجيوسياسى المتغير بسرعة.
• مشروعات صغيرة: فى المجال الاقتصادى، يعكس مفهوم «المشروعات الصغيرة، ولكن الجميلة» إعادة معايرة استراتيجية لاستثمارات البنية التحتية الصينية فى إفريقيا. فى حين كانت المشروعات الضخمة مثل: السدود والطرق السريعة والسكك الحديدية تهيمن فى السابق على بصمة الاستثمار فى الصين، تشير الاتجاهات الأخيرة إلى التحول نحو مبادرات أكثر قابلية للتطوير والتوسع، وخاصة فى مجال الطاقة المتجددة والشبكات الذكية والتكنولوجيا. إن المشروعات الصغيرة التى تعتمد على وحدات صغيرة تسمح بالمرونة؛ مما يجعلها أسهل فى التنفيذ مع الاستمرار فى إحداث تأثير تراكمى كبير.
ومن خلال التركيز على مشروعات أصغر وأكثر استهدافا، يمكن للصين الاستمرار فى الاستثمار فى إفريقيا دون نفس المستوى من التدقيق أو المخاطرة. وإضافة إلى ذلك، تتوافق هذه المشروعات مع أولويات التنمية الخاصة بإفريقيا، مثل: الحاجة إلى الانتقال إلى الطاقة الخضراء وإضافة القيمة فى صادراتها المعدنية. ومع سعى البلدان فى جميع أنحاء القارة إلى الصعود فى سلسلة القيمة وتنويع اقتصاداتها، توفر الخبرة والقدرة الفائضة للصين فى صناعات مثل الطاقة الشمسية فرصة رئيسية لتحقيق المنفعة المتبادلة.
• قيادة الجنوب العالمي: من الواضح اليوم وكما أبرزته طبيعة التحالفات الدولية المتغيرة أن الإدراك الأوسع هو أن الانقسام الجيوسياسى الأساسى لم يعد الشرق مقابل الغرب بشكل صارم، بل أصبح وبشكل متزايد الشمال مقابل الجنوب. ويمكن رؤية هذا التحول فى قضايا عالمية مثل: تغير المناخ والأزمات الدولية؛ إذ يتم وضع الجنوب العالمى، بما فى ذلك الدول الإفريقية، بشكل متزايد كفاعل مركزى. فى هذا السياق، فإن الدور المتطور للصين بحسبانها تنتمى لعالم الجنوب وتدافع عن مسارات التحديث البديلة أمر مهم. ولا يخفى أن التأطير الصريح للتحديث الغربى باعتباره مرتبطا بالاستعمار، يشير كما ورد فى الخطاب الصينى الأخير، إلى سرد تاريخى يتردد صداه لدى العديد من الدول الإفريقية التى عانت من استغلال غربى فى الحقبة الاستعمارية وما بعدها. وعليه تجرى العلاقة الصينية الإفريقية المتطورة فى سياق هذا الانقسام الأوسع بين الشمال والجنوب. لقد وضعت الصين نفسها استراتيجيا كنموذج للتحديث للجنوب العالمى، من خلال تعزيز سردية المستقبل المشترك والتنمية المشتركة.
• • •
ومع ذلك؛ فإن هذه الشراكة الصينية الإفريقية الجديدة وإن قدمت فرصا فإنها ليست خالية من المخاطر، يمكن توضيحها فى التالى:
1- شراكة أم هيمنة؟ تاريخيا، اتسمت الشراكات الخارجية لإفريقيا بالاستغلال والاستبعاد البنيوى. وهناك قلق مشروع من أن العلاقات الجديدة مع دول مثل الصين، قد تكرر هذه الديناميكيات. ومع ذلك، إلى جانب هذه المخاطر، هناك فرص واضحة لإفريقيا للاستفادة من أهميتها السياسية المتزايدة، وخاصة من حيث تصويتها فى المحافل الدولية. يكمن التحدى فى موازنة هذه الديناميكيات، من خلال ضمان أن إفريقيا ليست مجرد بيدق فى الجغرافيا السياسية العالمية، وإنما أيضًا فاعل رئيسى يشكل مستقبله ضمن سردية الجنوب العالمى المتطورة.
2- تبعات التصنيع السريع: لقد جاء التصنيع السريع فى الصين على مدى العقود القليلة الماضية بتكلفة بيئية كبيرة؛ إذ أصبح التلوث حقيقة يومية. ولعل ذلك يجعلنا نفكر فى العواقب الطويلة الأجل للتصنيع، وما إذا كانت الدول الإفريقية، فى تعاونها مع الصين، تفكر بجدية فى التكاليف البيئية المحتملة لتكرار مثل هذا النموذج التنموى.
3- تبعات التعاون المالى: إن العلاقات الصينية الإفريقية المتطورة، وخاصة فى سياق التعاون المالى والتنموى، تقدم فرصا وتحديات فى الوقت نفسه. ومن بين الجوانب الحاسمة لهذه العلاقة المشاركة المالية بين الدول الإفريقية والصين، كما أبرزت صفقة إعادة هيكلة الديون التى أبرمتها زامبيا مؤخرا مع البنك الصناعى والتجارى الصينى. ويمكن للدول الإفريقية أن تتعلم دروسا قيمة من نهج زامبيا فى التفاوض على مثل هذه الصفقات، وخاصة عند النظر فى خطوط الائتمان التى تبلغ قيمتها مليارات الدولارات والتى نشأت عن منتديات حديثة مثل منتدى التعاون الصينى الإفريقى.
ختاما، فإنه فى عالم اليوم المتعدد الأقطاب، تجد إفريقيا نفسها فى لحظة فاصلة. ففى حين تظل الصين شريكا اقتصاديا رئيسيا، تُبقى الدول الإفريقية أبوابها مفتوحة لمجموعة أوسع من الفاعلين الدوليين؛ إذ يتنافس الشركاء القدامى مثل: الاتحاد الأوروبى والمملكة المتحدة والولايات المتحدة على النفوذ جنبا إلى جنب مع القوى الصاعدة مثل: الهند وتركيا والبرازيل والدول العربية (التى تشكل طريقا ثالثا يختلف عن الصين والقوى الغربية). ويمنح هذا التنوع فى الخيارات القادة الأفارقة الفرصة لإعادة التفكير فى استراتيجياتهم ورسم مسار يتماشى مع أهدافهم طويلة الأجل. ومع تطور المشهد العالمى، تتمتع إفريقيا بالقدرة على تشكيل مستقبلها بشروطها الخاصة.
حمدى عبدالرحمن
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة